تعيش المجتمعات اليوم لحظة سيولة فكرية واسعة؛ تتزاحم فيها المعتقدات، وتتنازع الخطابات، ويتنقّل الأفراد بين الهويات بوتيرة أسرع مما كان ممكنًا قبل عقدين فقط. ولا يهمّ نوع التحوّل بقدر ما يهمّ أثره في بنية الذات؛ فخلف كل انتقال فكري حكاية نفسية لا تظهر للعلن، وتحتاج قراءة تتجاوز السرد المعتاد.
ضمن هذا المشهد المتحرّك تبرز تحوّلات الهوية بوصفها أحد أعقد مظاهر التغيّر؛ فهي لا تتجلّى في تبدّل المعتقد أو الموقف الثقافي وحدهما، بل في إعادة تشكيل الإطار الذي يفهم الفرد من خلاله نفسه والعالم. وتشمل هذه التحوّلات انتقالات واسعة: من انفتاح إلى انغلاق، ومن تشدّد إلى تحرّر، ومن تديّن إلى إلحاد أو العكس، ومن ثقافة إلى أخرى. وعلى اختلاف مساراتها، يجمعها أنها تمسّ البنية العميقة للذات، وتطال أسس فهم الإنسان للواقع ونظرته للوجود.
وقبل عقدين تقريبًا كان التحوّل الهوياتي يسلك مسارًا طويلًا؛ يمتد لسنوات، وأحيانًا لعقود، ويمرّ بحوار داخلي متدرّج وأزمات وجودية عميقة، ويترافق غالبًا مع خسارات اجتماعية حقيقية. أمّا اليوم فتصدر التحوّلات في زمن قصير يربك الوعي؛ إذ يغدو شائعًا أن تتشكّل مواقف بعض الأفراد عبر التعرّض السريع لمحتوى رقمي محدود، فينتقل المرء من قناعة إلى نقيضها بعد المرور بعدد قليل من تغريدات دينية أصولية، أو طرح إلحادي راديكالي، أو محتوى يروّج لعلوم زائفة، أو خطاب سياسي متطرّف. الإشكال ليس في طبيعة التحوّل، بل في سرعته التي لا تمنح الوعي فرصة كافية للاستيعاب ولا تتيح للتجربة أن تتبلور بصورة ناضجة أو مستقرة.
واللافت أن كثيرًا من هذه التحوّلات لم يعد يُبنى بوصفه مسارًا معرفيًا، بل يُستهلك كما لو كان منتجًا جاهزًا؛ كأننا أمام تحوّل استهلاكي أكثر منه تحوّلًا فكريًا. فالهوية تُطرح اليوم كحزمة سريعة: انتماء فوري، معنى جاهز، سردية مكتملة، وأعداء محددون، من دون الحاجة إلى سنوات من الشك والتيه والمراجعة.
وحين يترك الفرد منظومة عاش داخلها لسنوات، يدخل مرحلة تتراجع فيها مرجعياته السابقة من غير أن تتضح أمامه بدائل مستقرة. وفي هذا الفراغ يظهر قلق هوياتي يشتدّ كلما اتّسعت الفجوة بين حاجته إلى الانتماء وقدرته على بناء فهم جديد. وينكشف هذا القلق في اندفاع نحو الاستعراض؛ فالإفراط في إعلان التحوّل لا يعكس رسوخًا معرفيًا، بل يكشف حاجة ملحّة إلى الاعتراف. وكلما جاء التحوّل سريعًا أو مرتبطًا بقطيعة حادّة مع الماضي، ازداد الميل إلى تبنّي خطاب جديد بنبرة صاخبة مبالغ فيها، كأنها محاولة لإقصاء النسخة السابقة من الذات. وقد ينتقل الفرد من أغلال الماضي إلى أغلال الحاضر؛ فالشخص الذي كان يهاجم الاستماع إلى الموسيقى — مثلًا — قد يتحوّل فجأة إلى من يعدّها غذاءً للروح أو وسيلة لتهذيب النفس، لا نتيجة لتطوّر فعلي في الفهم، بل استجابة لرغبة سريعة في الاندماج داخل سياق مختلف. ولو كانت الموسيقى كافية لتهذيب النفس، لكان بعض أكثر القادة عنفًا في التاريخ من أهل السلام، غير أن التجربة الإنسانية أعقد من هذا التبسيط.
ويبدو أن أصعب ما يواجهه مُحدَث التحوّل هو التعامل مع ماضيه القريب؛ فالتجربة الشخصية تختلط لديه بالموقف الفكري، فيصعب عليه النظر إلى مرحلته السابقة بوصفها جزءًا من مسار التكوين. ويغدو الماضي عبئًا يسعى إلى تجاوزه سريعًا، بينما يتحوّل الحاضر إلى ساحة لتثبيت الانتماء الجديد. وفي هذا السياق تظهر عدائية تجاه المخالف؛ إذ يُستقبل الاختلاف بوصفه تهديدًا للهوية الناشئة، لا مجرد اختلاف في طرق التفكير. ويقود ذلك غالبًا إلى تبنّي مواقف جاهزة تعيق تشكّل فهم أعمق وأكثر استقرارًا.
والتحوّل الناضج لا يقوم على القطيعة التامة، بل على استيعاب التجارب السابقة وتفكيكها بوعي، ثم بناء بديل معرفي قادر على الصمود. فالنضج لا يُقاس بحدّة المواقف ولا بالصوت المرتفع الذي تُعلن به الهوية الجديدة، بل بالقدرة على إدراك أن الوعي مسار تراكمي، وأن الإنسان لا يولد من جديد كلما غيّر رأيًا، بل يتشكّل عبر خبرات تتداخل فيها المراجعة والتجربة والمعرفة.
ويمكن تمييز التحوّل الناضج عن ردّة الفعل الهوياتية من خلال أثرهما في علاقة الفرد بالآخر. فالتحوّل الذي يقوم على وعي متدرّج يوسّع دائرة التقبّل والتعايش، إذ يمنح صاحبه قدرًا من السكينة الداخلية تجعله أقل ميلًا إلى تحويل الاختلاف إلى صراع. أمّا التحوّل الذي ينشأ على عجل، فيولّد حساسية مفرطة تجاه المختلف، لأن الهوية الناشئة لم تكتسب بعد ثباتًا يسمح برؤية الآخر بوصفه فرصة للفهم لا مصدرًا للتهديد.
ومن المهم التنبيه إلى أن هذا النمط من التحوّل غير الناضج ليس استثناءً مرضيًا، بل مرحلة يمرّ بها كثيرون في لحظات الارتباك الكبرى، حين تسبق الصدمة القدرة على الفهم. غير أن الفارق الحاسم يكمن في المسار اللاحق: فقلّة فقط هي التي تحوّل هذه المرحلة إلى جسر نحو الوعي والتجاوز، بينما يتعثّر معظم الناس عندها.
ومن هنا، يُظهر تتبّع مسار التحوّل أن جوهر المسألة لا يكمن في تبدّل الهوية، بل في الأسس التي يقوم عليها هذا التبدّل. فحين يستند الانتقال إلى تحليل واعٍ لمقدماته ونتائجه، يصبح امتدادًا لمسار معرفي يمكن الدفاع عنه. أمّا حين يتقدّم الدافع النفسي على المبرّر العقلي، يصبح التحوّل مجرد انتقال من معسكر إلى آخر، لا نتيجة تفكير حقيقي. وبناءً على ذلك، لا يُقاس النضج بحدّة القطيعة أو بتغيّر الشعارات، بل بقدرة الفرد على بناء موقف مستقل لا يتكئ على مرجعيات جاهزة تمنحه يقينًا سريعًا.
وأخطر ما في مُحدَث الهوية أنه قد يتحوّل إلى أداة بين يدي أي جماعة أو تيار يمنحه اعترافًا سريعًا؛ كان بالأمس جنديًا في معسكر، وصار اليوم جنديًا في معسكر مضاد، وفي الحالتين لم يكن فاعلًا حرًا في تفكيره.
ويمكن في الختام إدراك الفرق بين الثبات والاضطراب في نماذج متقابلة نراها في الواقع: رجل دين منفتح على ثقافات الآخرين ومعتقداتهم، يرى في الاختلاف مجالًا للفهم لا ساحة للصراع، يقابله رجل دين مضطرب يتحرّك من خوف داخلي فيحوّل الإيمان إلى كراهية، والخلاف إلى معركة وجود. وبالمثل، نجد لا دينيًا منهمكًا في البحث والمعرفة، منشغلًا بفهم السياقات والسرديات، منفتحًا على الإنسان بوصفه إنسانًا، يقابله لا ديني مشحون نفسيًا لا يقلّ حدّة وتعصّبًا عمّن يهاجمهم. في الحالتين لا يصنع المعتقد وحده شكل العلاقة مع العالم، بل الحالة النفسية التي تستقر فيها الهوية؛ فالعقل المتّزن يبقى متّزنًا مهما تغيّر موقعه الفكري، والذهن المضطرب يعيد إنتاج التطرّف ولو بدّل شعاراته.

