: آخر تحديث
مبدعون في الذاكرة

سهيل سامي نادر: المبدع الصامت

2
3
3

في ذاكرة الصحافة العراقية، تمرّ أسماء كثيرة مثل عابري سبيل، وتختفي مثل غبارٍ يذروه الزمن، غير أنّ بعض الأسماء تظلّ وميضًا لا يخفت، كأنها وُلدت من معدن الضوء نفسه. وكان سهيل سامي نادر واحدًا من تلك الأرواح التي كلّما مرّت تركت أثرًا، وكلّما غابت بقي صداها حيًا، يدقّ باب الذاكرة برفقٍ لا ينطفئ.

كان معلّمًا يشبه نسمة الصباح: هادئًا، مطمئنًّا، يفتح للآخرين أبواب الطريق فيما يغلق حزنه على نفسه. ربّى أجيالًا من الصحفيين يوم كانوا يتهجّون الحروف، فحوّل خوفهم إلى مهارة، وخجلهم إلى يقين. لم يكن محرّرًا أو كاتبًا فحسب؛ كان صائغًا يعمل في ليل الكلمات، يعيد للنصوص جمالها، يشذب زوائدها، يلمعها بلمسته الهادئة، ثم يمضي مبتسمًا… كمن يترك هدية على العتبة ويرحل دون أن ينتظر شكرًا.

وكانت جلساته مع الشباب أشبه بحديقة صغيرة تتفتح فيها الحكمة بلا ضجيج. لم يرفع صوته يومًا، ولم يفرض رأيًا، بل كان ينصت كمن يلتقط خيطًا رقيقًا من المعنى، ثم يعيده إليك أنقى، وأعمق، وأقرب إلى القلب. كان معلمًا يُهدي المعرفة كما تُهدى زهرة: برفقٍ يليق بالمحبة، وبصدقٍ يليق بالنبل.

عرفته عن قرب حين جمعتنا مجلة فنون يوم كنتُ رئيسًا لتحريرها. هناك اكتشفتُ الرجل الذي يعيش بين السطور قبل أن يكتبها، ويغزل جمله كما يغزل الحداد خيوط الحديد في النار. كان يسكب في النصوص من روحه، فيتوهّج الحرف كأنه يُضاء من الداخل؛ يزخرفه بلطف، يثقّله بالمعنى حين يلزم، ويخفّفه بالرحمة حين يقتضي السياق.

وخسر سهيل الكثير في حياته، من صحته ووقته وراحته، لكنه لم يخسر شفافيته. ظلّ وفيًّا لمبادئه، نزيهًا في كلماته، طيبًا في أفعاله، يمشي في عالمٍ يتسارع حتى الإرهاق، بينما هو ما يزال يحتفظ بخطوته الواثقة الهادئة كمن يعرف أن القيمة لا تُقاس بالصخب.

كان موسوعةً تمشي على قدمين، كاتبًا متعدد الوجوه: ناقدًا تشكيليًا يرى اللون كما لو يسمع موسيقاه، أديبًا يكتب بروح تُشبه زمنًا أرقى، ومفكرًا سياسيًا يوازن بين الحدة والعمق، بين الرؤية والإحساس. كان فهمه للفن نادرًا، طريقته في التحليل سلسة، قدرته على تبسيط المعقد موهبة لا تتكرر. أما أدبه، فكان نبرةً خفيّة تحمل عبق تراث كامل، ونغمة لا يخطئها من عرف لغته وروحه.

له كتبٌ تشبهه: هادئة من الخارج، عميقة من الداخل، تمشي على خيطٍ رفيع بين الفن والفكر. بعضها وُلد من قلق الأسئلة السياسية، وبعضها من محبةٍ قديمة للفنون التشكيلية، وبعضها من شغفٍ بالأدب ولغته الأولى. كتبه ليست مرآة لزمنٍ عابر، بل خرائطُ روحية خبّأ فيها شيئًا من قلبه وشيئًا من رؤيته، فغدت مراجع لمن أراد أن يرى الثقافة بعيونٍ أكثر صفاءً وأقل ادّعاءً.

لقد تواصل مع الأفكار المختلفة بقلوب مفتوحة وعقول مستنيرة، فصار جسراً بين مدارس الرأي، ونافذة يطلّ منها الكثيرون على نقاشات لا تكتمل إلا بحضوره. لم يكن مجرد كاتب؛ كان خلقًا آخر من الكتابة، مدرسةً تمشي، وإنسانًا يعلّم الصدق كما يعلّم الحرف.

سهيل سامي نادر هو الوجه السريّ للجمال في الصحافة العراقية؛ لا يُرى من بعيد، لكنه يلمع لمن اقترب، مثل جوهرة لا تكشف بريقها إلا لمن يعرف قيمتها. وما أندر أن يتحوّل الصمت إلى لغة، والنزاهة إلى مذهب حياة. هكذا كان… وهكذا سيظل في الذاكرة: رجلًا كتب ليمنح الضوء فرصةً أخرى ليظهر في زمنٍ كثر فيه الظلام.

وهكذا يمضي سهيل سامي نادر بيننا، لا كاسمٍ عابر في سجلّ المهنة، بل كقصيدة تُقرأ بالقلب قبل العين. لم يحتج إلى منبرٍ ليُرى، ولا إلى ضجيج ليُسمَع؛ كان يكفيه أن يكتب، ليتسع العالم فجأة. إنه آخر السلالات التي آمنت بأن الكلمة ليست مهنة بل قدر، وأن الصمت ليس انسحابًا بل حكمة. وحين يُذكر اسمه، ينهض في الذاكرة رجلٌ عاش كما تكتب الأشجار: بصبرٍ، وبجذورٍ عميقة، وبظلٍّ لا ينقطع.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.