مع نهاية عام 2025، هناك معطيات جديدة في الصعود السعودي، حيث يجب أن تقرأ علاقة الرياض بالقوى الكبرى بلغة إعادة التموضع وليس مواقف الاصطفاف المتخيلة، ثمة منطق جديد بدأ منذ سياق «رؤية 2030» وأيضاً التحولات الجيوسياسية الهائلة في منطقة الشرق الأوسط، أنتج منطقاً سعودياً فاعلاً ومستقلاً، وديناميكية مكّنت الرياض من موقعها الجديد على الخريطة السياسية.
الزيارة الأخيرة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، وما حملته من تفاهمات أمنية، وصفقات عسكرية متقدمة، واتفاقات تكنولوجية، ثم التسريبات منذ الأمس عن التوتر الذي ظهر في لقائه المغلق مع ترمب بشأن ملف التطبيع مع إسرائيل، كلها تشكل فسيفساء للوحة جدارية صلبة، يمكن قراءتها في سياق التطور الجوهراني لمقاربة السعودي لعالم يعيش لحظة تشكل ومحيط مرتبك وسيّال: السعودية أولاً. هذا المبدأ لا يعني الانعزال ولا القطيعة، بل القدرة على توظيف المكانة، والثقل الاقتصادي، والدور السياسي لترتيب العلاقة مع القوى الكبرى وفق ما تقتضيه المصالح الوطنية، وليس وفق ما تريده تلك القوى.
خلال عقود طويلة، بُنيت العلاقة السعودية – الأميركية على معادلة «النفط مقابل الأمن». أما اليوم فالمعادلة باتت مختلفة؛ الولايات المتحدة تقدم مظلة دفاعية محدثة، وصفقات واسعة تشمل طائرات الشبح «F-35» وتقنيات نووية سلمية، فيما تقدّم السعودية استثمارات هائلة في البنية التحتية والتكنولوجيا الأميركية. وفي المقابل، تحافظ المملكة على شبكة واسعة من المصالح مع الصين، لم تعد مجرد تجارة طاقة، بل أصبحت جزءاً من بنية التحول الاقتصادي الذي تقوده «رؤية 2030». فالصين، من خلال مئات الشركات الناشطة في مشاريع البنية التحتية والمصانع والسكك الحديدية والطاقة النظيفة، باتت عنصراً جوهرياً في مسار السعودية نحو اقتصاد صناعي متنوع. وفي الوقت الذي تستعيد فيه واشنطن نفوذها الأمني، تتعزز المكانة الاقتصادية للصين، ما يمنح الرياض هامشاً أوسع للحركة ويجعلها قوة وسطى فعّالة لا تدور في فلك أحد.
لم يعد مقبولاً وفق هذا الصعود السعودي الذي كان حديث مراكز الأبحاث وخزانات التفكير الدولية البقاء على معادلة المنطق الصفري «إما واشنطن أو بكين». هناك استراتيجية يمكن قراءتها عبر المقاربة السعودية التي اتخذت من «اللااصطفاف المرن» إطاراً لسياستها تجاه الملفات الأساسية وتجلى بوضوح في ملف العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة. فخلال اجتماع 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، سربت الصحف الأميركية بالأمس أن ترمب حاول جاهداً الضغط بشكل مباشر للانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم، لكن ولي العهد كان واضحاً وصارماً في التمسك بشروطه موضحاً أن التطبيع لن يتم قبل وجود مسار موثوق، ولا رجعة فيه لإقامة دولة فلسطينية.
موقف ولي العهد هو انسجام مع الوضوح السعودي، فهو لم يكن موقفاً تكتيكياً ولا مراوغة دبلوماسية، بل ترجمة حرفية لمبدأ «السعودية أولاً» بما تعنيه المصلحة السعودية بمفهومها الشامل ونطاقها الواسع الذي يراعي مكانتها في العالم العربي والإسلامي؛ أي أن أي خطوة كبرى في الإقليم يجب أن تنسجم مع المصالح السعودية، ومع السياقات الوطنية والإقليمية، ومع التوازن الاستراتيجي الذي تبنيه الرياض، وليس مع رغبة الإدارة الأميركية في تحقيق اختراق سياسي سريع أو مكاسب نيئة لم تطبخ على مهل في رواق الحكمة السعودية التي يعرفها الجميع.
إن اعتبار الفلسطينيين جزءاً أساسياً من معادلة التطبيع لا يأتي من باب الشعارات كما كان يستثمر أصحاب المشاريع التقويضية، بل من حسابات استراتيجية دقيقة. فالمملكة تدرك أن الاستقرار الإقليمي الذي تحتاجه مشاريعها العملاقة في نيوم والبحر الأحمر والرياض 2030 لا يمكن بناؤه على تسوية مجتزأة تتجاهل جوهر الصراع. كما تدرك أن تطبيعاً بلا مسار سياسي سيضعها في موقع طرف في صراع مزمن لا يخدم مصالحها، خصوصاً في ظل الرفض العالمي وليس الإسلامي أو العربي، بل العقلاء من كل أقطار الدنيا لأي اتفاق يتجاهل حقوق الفلسطينيين. ولذلك، جاء رد ولي العهد حاسماً: التطبيع ممكن، لكنه مشروط بتحول بنيوي واضح في الموقف الإسرائيلي، وليس استجابة لضغط أميركي أو نتيجة لحسابات سياسية داخل واشنطن.
في المقابل، يدرك البيت الأبيض أن المملكة لم تعد دولة يمكن التعامل معها بمنطق «الطلب مقابل المنحة». فالسعودية أصبحت قوة اقتصادية واستثمارية ومالية ذات وزن ثقيل عالمياً، وهي أكبر مشترٍ للسلاح الأميركي، وأكبر مصدر للطاقة للصين، وواحدة من أكبر المستثمرين في الاقتصادات الغربية.
ما حدث في لقاء ترمب ومحمد بن سلمان هو تجسيد حي لهذا التحول. رئيس أميركي يسعى لإنجاز سياسي سريع، وولي عهد سعودي يفاوض من موقع قوة، ويوازن بحسابات دقيقة بين الأمن والاقتصاد، وبين واشنطن وبكين، وبين لحظة سياسية حرجة على الأرض في غزة ومصالح طويلة المدى للسعودية مبنية على دورها وموقعها الجيوسياسي المتصاعد. هذا الموقف الصلب نتيجة منطقية لصعود السعودية كقوة إقليمية مركزية، ولنجاحها في توسيع موارد القوة الصلبة (التسليح والردع) والناعمة (الاستثمار والدبلوماسية) والهيكلية (الطاقة، الأسواق، التمويل).
«السعودية أولاً» ليست شعاراً، بل نظرية عمل استغرقت قرابة العقد مع صعود «رؤية 2030» أعادت تشكيل السياسة الخارجية السعودية وفق منطق المستقبل لا الماضي، وهذا مهم أن يؤخذ في السياق. وفي عالم يتشكل على وقع تنافس القوى الكبرى وتراجع الهيمنة الأميركية التقليدية وصعود آسيا، تبدو الرياض لاعباً قادراً على استخدام هذا التنافس لتعزيز مكانتها، وتحديد شروط السلام الإقليمي، وفرض رؤيتها لمستقبل الشرق الأوسط. وإذا كان التطبيع سيحدث يوماً ما، فإنه سيحدث وفق الشروط التي حدّدتها السعودية؛ دولة فلسطينية بمسار واضح، واستقرار إقليمي طويل الأمد، واتفاق يخدم مصالح العرب قبل أن يخدم أجندات الآخرين. بهذه المعادلة، تدخل المملكة مرحلة جديدة في تاريخها السياسي، وتتحول من دولة تُستشار إلى دولة تُحسب حساباتها في كل قرار دولي مهم.

