من بعيد، كنت أراقب خطوات الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، وهو يزور الولايات المتحدة الأميركية هذه المرة.
كنت أراقب الزيارة في مجملها تارة، وفيما يخص موقع القضية الأم على خريطتها تارة أخرى. وليست القضية الأم في منطقتنا سوى القضية في فلسطين. وهي كذلك لأنك إذا قلت: «القضية الأم»، فقط، فلست في حاجة إلى شرح مضاف ولا إلى بيان، ليفهم المتلقي عنك أنها القضية كذا تحديداً؛ لا سواها.
وكان عندي سببان للنظر إلى الزيارة من هذه الزاوية: أولهما موقف المملكة المسبق في هذا الشأن، وثانيهما موقف إسرائيل المُسبق أيضاً في الشأن نفسه.
نذهب إلى شيء من التفسير، فنقول إن الرياض راحت تتبنى منذ وقت مبكر الدفع بمبدأ «حل الدولتين» إلى مركز الوعي لدى الناس في المنطقة، ثم لدى صناع القرار في مراكز صناعته حول العالم، وبالذات في نيويورك؛ حيث المقر الرئيسي لمنظمة الأمم المتحدة.
ورغم أن هذا المبدأ في حد ذاته قديم، فإنه من طول ترديده، ومن طول عدم تحويله إلى شيء قابل للحياة، كاد يفقد أهميته وضرورته، مع أنه الحل الذي لا يبدو في الأفق حل للقضية الأم سواه. وكان أن وضعت السعودية يدها في يد فرنسا، ثم مضت الدولتان بالمبدأ الشهير إلى نيويورك، ومن قبل الذهاب به كان العمل عليه يتواصل، فلما انعقد مؤتمره الخاص هناك أعطاه دفقة من الحيوية، ولما انتقلت الرياض وباريس به إلى اجتماعات الجمعية العامة السنوية في سبتمبر (أيلول) الماضي، سارعت 11 دولة لتعترف بفلسطين مرة واحدة.
وحين جرى عرض الأمر على الجمعية العامة، وصل عدد الدول المعترفة بفلسطين إلى 155 دولة، من أصل 194 دولة هي الدول الأعضاء في المنظمة، وكان ذلك إشارة إلى أن عمل الرياض وباريس قد أثمر أمام الناس، وأن حصيلته قد جرت ترجمتها عملياً في قاعة اجتماعات الجمعية العامة، وأن تصويت هذا العدد من الدول على الاعتراف بفلسطين، إنما هو إشارة أخرى إلى أن المملكة لمَّا ألقت بثقلها السياسي وراء الموضوع، كانت تعرف أين بالضبط تلقي بالثقل السياسي، وعلى أي شيء على وجه التحديد تراهن وتنتظر حصيلة الرهان.
على هذه الأرضية المفروشة مقدماً، ذهب الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن في زيارته، وهي أرضية كانت المعلومات عنها متوفِّرة بالضرورة للرئيس ترمب الذي لما وصل إليه ما تريده تل أبيب من ولي العهد السعودي، لم يلتفت إلى ما تريده، ومضى يتصرف على نحو آخر.
أما الموقف المسبق لإسرائيل فكان يعمل على نوع من الإغراء السياسي للرئيس الأميركي، وكان أساس الإغراء أن يتعامل سيد البيت الأبيض مع ولي العهد بطريقة المقايضة القديمة التي كان البشر يجدون فيها ما يغنيهم عن المال، وكانت القاعدة وقتها أنك تعطيني شيئاً أحتاج إليه، فأعطيك في مقابله شيئاً تحتاج إليه، ولا مال ولا فلوس بين الطرفين في الموضوع.
عرفت حكومة التطرف في تل أبيب مسبقاً أن السعودية في حاجة إلى طائرات «إف 35» من الولايات المتحدة، فقالت بينها وبين نفسها إن هذه فرصتها لإغراء إدارة الرئيس ترمب بالمقايضة مع الرياض؛ التي بحكم حاجتها إلى الطائرات المشار إليها سوف تجد نفسها مضطرة إلى القبول بمبدأ المقايضة، فهكذا تصورت الحكومة في الدولة العبرية.
وكان الهدف لدى إسرائيل كالتالي: تأخذ السعودية الطائرات التي طلبتها وتحتاج إليها، ولكن تبذل في المقابل ما تحتاج إليه إسرائيل، وهو انضمام السعودية إلى «اتفاقات إبراهام للسلام». وقد بدا للإسرائيليين أن الرياض يمكن أن تكون العاصمة الخامسة، وأن حاجة العاصمة السعودية للطائرات المطلوبة تجعل طريق قطار الاتفاقات الإبراهيمية إلى الأراضي السعودية ممهداً، ومفتوحاً، وخالياً من العقبات.
ولكن الطرفين في الزيارة كانا يفكران بطريقة مختلفة عن الطريقة التي استبدت بحكومة التطرف في تل أبيب. فالأمير محمد بن سلمان كان قد جاء يسبقه موقف سعودي في هذا الشأن لا يتزعزع، وكان الموقف غير المتزعزع أن التطبيع ممكن في المستقبل، ولكنه مشروط بقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، أو بوجود مسار واضح يؤدي إلى ذلك، خلال مدى زمني معلوم مقدماً.
والطرف الثاني في الزيارة، وهو الرئيس الأميركي، كان يعلم أن موقف السعودية ثابت لا تناقش فيه المملكة، والذي يستند إلى المبادرة العربية في القمة العربية في بيروت 2002. وقتها كانت المبادرة سعودية، ثم سرعان ما صارت عربية؛ لأنها حظيت بتأييد عربي جامع، ومن بعد ذلك حظيت بتأييد غير عربي شبه جامع.
عاد ولي العهد بصفقة الطائرات في جيبه، ولم يُسلِّم بمبدأ المقايضة، واستند في ذلك إلى موقف سعودي مستقر، وخاب سعي تل أبيب المكشوف، ولا تزال مدعوة إلى أن تتعلم أن طريق السياسة ذو اتجاهين، وأن عليها إذا رغبت في السلام أن تقدم الأرض في المقابل؛ لأن السلام إذا كان سلعة فإنها ليست بالمجان.

