دفاعا عن قضية الصحراء المغربية، عملت الدولة المغربية في العقدين الأخيرين بمنطق دبلوماسي جد دقيق، اعتمد على الهدوء والنفس الطويل، والرؤية الواضحة، وعلى توظيف كل الوسائل والإمكانيات القانونية والدبلوماسية المتاحة، وكأي قضية عادلة يتطلب الدفاع عنها استراتيجية مدروسة، اعتمد المغرب في البداية على التعريف بعدالة موقف بلادنا وبحقوقنا التاريخية والمشروعة في الصحراء المغربية، وذلك رغم السياق الدولي الصعب والمعقد حتى اتضحت الرؤية لدى العديد من الأطراف الدولية، فجاءت المرحلة الطبيعية لتكريس الحق داخل القرارات الدولية آخرها قرار مجلس الأمن رقم 27.97.
قيادة الدبلوماسية بعمق فكري وانساني
في هذا السياق، وعندما قاد المغرب هذه الدبلوماسية بهذا العمق الفكري والإنساني، كان يستمد قوته ليس من شرعية الحق فقط، بل كذلك من واقع تاريخي عرفته كل الشعوب والدول التي ناضلت من أجل استقلالها ووحدتها الترابية. فرغم أن الشعوب التي استعمرت كانت تناضل من أجل حقها في الاستقلال الذي تقره وتضمنه كل الشرائع السماوية والمواثيق والقوانين الإنسانية الدولية، قديمها وحديثها، فإن هذا الحق كان يحتاج دائما الى سيرورات تاريخية طويلة وشاقة لكي يصبح واقعا فعليا منجزا.
فالحق الوطني في الاستقلال والوحدة الترابية، كان يصطدم ولا يزال برهانات ومصالح جيوسياسية للقوى العظمى التي ظلت دائما تحتكر تأويل القيم والقوانين العالمية، أي تحتكر الوجهة التي يجب أن يسير وفقها التاريخ لحل هذا النزاع أو ذاك حول قضايا وطنية تهم الدول المطالبة باستقلالها الكامل. الأمر الذي فرض على الكثير من الدول أن تسلك مسارا شاقا وعسيرا حتى تنال استقلالها كاملا، وكلفها تضحيات جسيمة.
فإذا كان الصراع السياسي داخل الدول يحتكم للقانون فإنه في العلاقات الدولية لا يحتكم إلا للقوة، لتصبح مصالح الدول القوية هي الهدف في حد ذاتها، وبالتالي فإن حق هذه الدولة أو تلك لا يأخذ طريقه للواقع إلا عبر مسارات تحددها رهانات ومصالح القوى العظمى في مرحلة من المراحل. وبما أن كل أمة تحدد مصالحها وفق تصور ثقافي وقيمي خاص بها، فإن ثقافة وقيم الدولةالقوية تقدم نفسها على أنها هي ثقافة وقيم العصر، وبالنتيجة فإن مصالحها تتحقق كبديهيات لا تحتاج المراجعة أو النقد.
بهذا المعنى فإن الدول الصاعدة والنامية تحتاج دائما إلى مجهودات إضافية لكي تستطيع أولا أن تفهم مصالحها الخاصة المتميزة عن مصالح الدولة القوية داخل العلاقات الدولية، ولكي تستطيع ثانيا، أن تحقق هذه المصالح داخل رهانات جيوسياسية دائمة التبدل ومعقدة.
إن هذا الواقع المطبوع بسيطرة سياسة القوة في العلاقات الدولية، هو الذي يجعل علاقة مفهوم العالمية بمفهوم الوطنية قائمة تارة على التوافق وتارة على التوتر، وتارة أخرى على التصادم.
فاذا كانت الوطنية تقوم على مصالح خاصة، متميزة، والعالمية تعني التاريخ المحدد بعقلانية خاصة تبني فهما معينا لتطور البشرية، فان عملية الجمع والتوافق بينهما تظل دائما تخضع لموازين القوى الدولية، أكثر مما تخضع لمنطق ومبادئ عقلانية. لان مضمون التاريخ الذي يدعي العالمية هو مصلحة سياسة القوى المسيطرة التي تقدم نفسها كثقافة وقيم إنسانية.
حسم التناقض بين الوطنية والتاريخ
لقد استطاعت الدول العظمى، عبر التاريخ، ان تحسم التناقض الحاصل بين الوطنية، كمصلحة خاصة من بين مصالح وطنية مختلفة، والتاريخ كقيم ومبادئ العالمية، بجعل مصلحتها الوطنية هي مصلحة كل الإنسانية، ونصبت نفسها الممثل الوحيد للعالمية.
حالة المغرب مع قضية الصحراء المغربية تعبر بشكل مكثف عن العلاقة بين العالمية/التاريخ والوطنية. فإملاءات المصلحة الوطنية التي يراها المغرب كحق لا غبار عليه في استكمال وحدته الترابية وبسط سيادته على كامل الوطن التاريخي للمغاربة من طنجة الى الكويرة، لم تجد مكانا يليق بها داخل التاريخ الحديث الا بعد صبر استراتيجي للدولة وذكاء تكتيكي في السياسة، وقوة متصاعدة للثقافة الوطنية.
لقد نجحت الدول الوطنية، عبر التاريخ، كألمانيا الباسماركية وبعدها الصين الشعبية على سبيل المثال لا الحصر، عندما استطاعا اقناع العالم في فترة صعودهما بان مصالحهما الوطنية لا تتناقض مع العالمية، وان ثقافتهما الوطنية هي الطريق الوحيد للوصول للحداثة.
والمغرب اليوم هو نموذج جديد لهذا النجاح. حيث التمسك بمغربية الصحراء كمصلحة وطنية لا تفاوض حولها، وكحق ثابت يضرب بجذوره في التاريخ والثقافة الوطنيتين، مكنه من انتزاع الاعتراف الدولي، قاريا وعالميا، رغم الصعوبات التي خلقتها تطورات مفهوم العالمية الذي تدحرج بين الضيقية المتمركزة على الذات الغربية، وبين الانفتاح على ثقافات وقيم أخرى مختلفة لكنها لا تتعارض مع روح المفهوم ومراميه.
كان المغرب يحتاج الى وقت طويل مملوء بجهد جبار ساهمت فيه كل القوى الحية للبلاد كتعبير عن اجماع امة ووحدة شعب تحت قيادة ملكية مشروعة وشرعية، لكي يجعل ثقافته الوطنية التي تبرر مصلحته الوطنية، باعتبارها المرجعية التاريخية لمشروعية مغربية الصحراء، تعلو الى مصاف العالمية، ويقتنع العالم، بان الخصوصية التاريخية لعلاقة الشعب المغربي بالملكية، عبر مفهوم إمارة المؤمنين الذي ينبني على عقد البيعة، هي خصوصية دين و ثقافة لا تتناقض أبدا مع مفهوم العقد الاجتماعي الذي يؤسس للديمقراطية داخل المجتمعات الغربية التي تحتكر عملية تحديد مضامين العالمية.
بناء القوة على أساس الثقافة
إن عظمة الدول تتأتى من بناء القوة على أساس الثقافة، لان رفعة الثقافة ورفعة القوة السياسية متلازمتين بشكل وثيق كما بين ماكس فيبر، لكن القوة ليس فقط أرقاما في الدخل الفردي والناتج الداخلي الخام، او عتاد وعدة في الحديد والنار في مجال التسليح. ان القوة في العلاقات الجيوسياسية تقوم أيضا على اندماج سوسيو-ثقافي للمجتمع والدولة على أساس ثقافة موحدة تستطيع ان تعقلن المصلحة الوطنية وتقنع العالم بان خصوصية الوطنية هي البوابة الحقيقية لولوج العالمية والمساهمة في القيم الإنسانية الحديثة.
وإذا كانت المصلحة الوطنية تحددها وتعززها في الان معا الثقافة الوطنية، فإنها في المغرب ثقافة عمادها الدين الإسلامي الذي يقر البيعة بمثابة العقد الاجتماعي الذي يعكس تراضي كل مكونات الامة على مشروعية الملك كأمير للمؤمنين ورئيس للدولة، ورمز ثقافي لوحدة المجتمع.
ان تلاعب القوى الاستعمارية بحدود الدول الافريقية قاد الى بقاء أجزاء من الوطن جيوبا للمستعمر من اجل ابتزاز واضعاف الدول الوطنية لأغراض جيو سياسية. وهو الواقع الذي وجدت فيه بعض القوى الإقليمية التوسعية، عندما تم استرجاع هذه الأجزاء، فرصة لافتعال قضايا مثل قضية الصحراء المغربية.
اظهار الثقافة الوطنية كدينامية مفتوحة على المستقبل
والواقع ان نجاح المملكة في انتزاع الاعتراف بمغربية الصحراء افريقيا ودوليا، هو امر مرده لاستراتيجية أساسية تمثلت في قدرة المغرب على اظهار الثقافة الوطنية كدينامية مفتوحة على المستقبل، وقادرة على الإدماج وتحقيق التنمية في افق اللحاق بالعالمية. وتشكلت هذه الاستراتيجية عبر رافعتين أساسيتين هما، رافعة الحكم الذاتي كحل ديمقراطي للنزاع المفتعل حول مغربية الصحراء، ورافعة التنمية الاقتصادية الاجتماعية كأساس للاندماج السوسيو-الاقتصادي للمجتمع المغربي. وهما معا رافعتين تقودان الى إعادة تأسيس نمط حداثي جديد لمشروعية المملكة المغربية في سيادتها على كامل التراب الوطني.
يشكل مشروع الحكم الذاتي لجهة الصحراء المغربية الذي تقدم به المغرب رسميا للأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 11 ابريل 2007 عبر وثيقة أطلق عليا اسم (مبادرة مغربية للتفاوض بشأن نظام الحكم الذاتي لجهة الصحراء) تصورا سياسيا لحل النزاع المفتعل حول مغربية الصحراء، وفي الان نفسه تصورا ديمقراطيا لأسلوب تنظيمي جديد للجهات يفتح المجال واسعا للنخب المحلية الجهوية للمشاركة في تسيير الشأن المحلي وبناءمستقبل منطقتهم ضمن وحدة الوطن.
ويأخذ مشروع الحكم الذاتي الذي يتبناه المغرب صفته الديمقراطية من خلال العناصر والاليات سياسية التي يحملها كمداخيل أساسية لمشاركة سكان الصحراء في بناء مؤسساتهم المحلية واستقلاليتهم في اتخاذ القرار التنموي لجهتهم.
حصر العناصر الأساسية لمشروع الحكم الذاتي
ويمكن حصر العناصر الأساسية لمشروع الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية للمملكة في ثلاثة عناصر أساسية: العنصر الأول هو الاحترام التام والانسجام الكامل مع المعايير الدولية المعمول بها في العالم، وهي المعايير التي تشكل روح العصر الحديث. العنصر الثاني هو ان مشروع الحكم الذاتي يعطي لسكان الجنوب المغربي حق اختيار رئيس لحكومتهم الجهوية عن طريق الانتخاب. العنصر الثالث هو توفير ضمانات دستورية للحكم الذاتي لجهة الصحراء المغربية، هذه العناصر الرئيسة (إلى جانب أخرى لا تقل أهمية مثل الاختصاصات وتوزيع الموارد وحق الرقابة والتي لا يتسع المجال هنا للتفصيل فيها أنظر مقالنا المعنون بـ "بين الانفصال وتقرير المصير، الحكم الذاتي في الصحراء المغربية". جريدة هسبريس الاثنين 14 اكتوبر2024) تعبر بما يكفي عن التوجه الديمقراطي التشاركي الذي استجاب به المغرب لتطلعات ومصالح مواطناته ومواطنيه من سكان الأقاليم الجنوبية. وكل نخبة سياسية محلية او جهوية قلبها على الديمقراطية، وإرادتها على تنمية وازدهار منطقتها ما كانت لتخلف الموعد التاريخي لتحول هذا المشروع المقترح الى واقع حي ينهي نزاعا إقليميا مفتعلا.
فعبر مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية المغربية، يظهر المغرب أنّ مفهوم الديمقراطية الذي يتبنّاه، في إطار خصوصيته الثقافية والتاريخية، ينتمي إلى صميم قيم الحداثة ومبادئ الديمقراطية كما هي متعارف عليها عالميًا. إنّه مفهوم أكثر التصاقًا وترجمةً لثقافة حقوق الإنسان، وللحريات الفردية والثقافية، وللتمثيلية المؤسساتية.
نجاح المملكة
ويعود نجاح المملكة في انتزاع الاعتراف بمغربية الصحراء أيضًا إلى نجاح السيرورة الاقتصادية والاجتماعية التي أطلقها المغرب لبناء اندماج سوسيو–اقتصادي قائم على المواطنة والتنمية المستدامة.
فنجاح المغرب دبلوماسيًا في إقناع أهم دول العالم ببديهية مغربية الصحراء، لم يكن ليبلغ هذا المدى لو لم يكن ترجمةً واقعيةً لقوة السياسات العمومية في مختلف مجالات الإصلاح. فمن إصلاح منظومة العدالة، إلى سنّ قوانين مشجّعة على المبادرة الحرة، والاستمرار في سياسات الدعم الاجتماعي في السكن والثقافة والتشغيل الذاتي والتغطية الصحية، وتوسيع قاعدة المتمدرسين في المجال القروي، خاصة لدى الفتاة القروية؛ كلها ديناميات إصلاحية منحت المغرب صورة الدولة التي تشتغل بعمق على خلق سيرورة اندماج سوسيو–اقتصادي دامج لجميع المغاربة.
وآفاق الإصلاحات التي تفتحها سياسات الاندماج الاجتماعي والاقتصادي داخل المجتمع المغربي، من جهة ثانية، هي التي منحت الدبلوماسية المغربية قوتها القادرة على انتزاع الاعتراف بمغربية الصحراء. فلا قوة في السياسة الخارجية من دون قوة اقتصادية واجتماعية تبوّئ المواطنة والتنمية مكانة مركزية داخل المجتمع.
إن قدرة المغرب اليوم على تحقيق انتصارات في ملف قضيته الوطنية الأولى، قضية مغربية الصحراء، متأتية من نجاحه في بناء عمق جديد للمشروعية السياسية لسيادته على كل جغرافية الوطن، بما فيها الأقاليم الجنوبية. إنها مشروعية تزاوج بين قوة الأسس التقليدية وآفاق الأسس الحديثة القائمة على التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي.
قوة الثقافة الوطنية التي تجسّد الحداثة
وبهذا المعنى، فإن الحق المغربي في صحرائه، كما هو واضح وبديهي، يحتاج في الآن نفسه إلى جهد تتضافر فيه إمكانيات المجتمع مع مؤسسات الدولة، ليُكتب في سجل التاريخ من باب قوة الثقافة الوطنية التي تجسّد الحداثة، بوصفها عالمية هذا العصر، في صيغة خاصة ومتميزة هي الصيغة المغربية. فمكانة الحق في التاريخ كانت دائمًا تُبنى بالجهد والعرق والصبر، وأحيانًا بالدماء.
وعندما يرى العالم كيف أنّ المملكة أقرت حقّها في استكمال وحدتها الترابية بسبل السياسة، وبالاعتماد على جدية الحلول الواقعية، وبنبل الحوار القائم على الإصغاء وعمق التفهّم، فإن هذا العالم سيدرك فلسفة السِّلم التي يتشبع بها المغاربة، وهي ما يجعلهم يعيشون اليوم انتصاراتهم الوطنية بيد ممدودة لأنصار السلم والمحبة في العالم، وبطعم حضاري رفيع قلّ نظيره.

