لم يعد الخراب في السودان ابنَ المصادفات، ولا ثمرةَ صراعات عابرة، ولا نتيجةَ سوء تفاهم سياسي، الخراب اليوم له وجهٌ واحد، وصوتٌ واحد، وخطى واضحة، وله رجلٌ قرر أن يعتلي كتفيه ويمشي به فوق جثث الأبرياء، رجل اختار طريق الحرب لأن السلام يعني هلاكه ، رجل اسمه حميدتي، لكنه في حقيقة الأمر ليس رجلًا؛ بل مشروع هدمٍ متنكر في هيئة قائد، لعنة تمشي على قدمين، يستمدّ وجوده من الفوضى، ويطيل عمره كلما طال نزيف السودان .
إن الدور الذي لعبه حميدتي لم يكن تمرداً عابراً ولا نزوة سياسية؛ كان قراراً محسوباً بإغراق السودان في ركام لا ينتهي، لأن كل ما يمتلكه لا يعيش إلا في الظلام. الضوء يفضحه، والدولة تقصيه، والقانون يعريه. ولذلك، كل فرصة سلام كانت بالنسبة له خطراً يجب اغتياله. السلام تهديد، والهدنة حصار، ووقف النار إعلان مبكر لانتهاء فوضاه التي من دونها لا معنى لسلطته.
لقد ظنّ أن التاريخ يمنح القوة لمن يصرخ أعلى، أو لمن يحمل سلاحاً أكثر، أو لمن يحشد مرتزقة من كل فجّ مظلم. لم يفهم أن قوة الدولة لا تُقاس بعدد البنادق، بل بعمق الجذور، بصلابة المؤسسات، وبالذاكرة الثقيلة لشعبٍ لا يقبل الانحناء ، السودان ليس ساحة مستباحة، ولا وطناً مهجّناً ، ولا شعباً يمكن إخضاعه ، هذا وطن من سبعة آلاف سنة، يعرف الخراب جيداً لكنه لا يورثه لأحد ، ولو كان الخراب كائناً حياً لوقف مذهولاً وهو يرى حميدتي يتقدم ليأخذ دوره ويعلن نفسه خليفة الدمار.
لقد تحرك الرجل كما تتحرك النار حين تجد حطباً جديداً. كل مدينة هي وقود. كل شارع هدف. كل بيت يسقط هو خطوة نحو حلمه. كل جثة هي حجر إضافي في الطريق الذي يريد أن يقيمه فوق جماجم الأبرياء. لم يكن يفاوض من أجل الوطن؛ كان يفاوض من أجل نفسه. وكل جلسة حوار كانت مجرد واجهة يتوارى خلفها، بينما يرسل رجاله ليفتحوا جرحاً جديداً في جسد السودان. كان يتحدث عن السلام بلسانٍ يقطر عسلاً، بينما قلبه يغلي غلاً ، وقراراته تكتب الليل على الخرطوم ودارفور وكردفان بمداد أسود لا يُمحى.
السلام لم يكن مشروعاً يتعهد به؛ كان تهديداً يقضي عليه. لأنه ببساطة لا يعيش في وطن يتنفس، بل في وطن يختنق. ولا يقود مجموعة واعية ، بل قطعانًا مجنونة تحمل السلاح ،ولذلك كلما اقتربت البلاد من لحظة انفراج، أطلق النار. كلما حاول الشرفاء ترميم الدولة، دفع بمرتزقته لهدم ما تبقى. كلما لاحت فرصة لمّ الشمل، مزّقها كما يمزق الغراب وجه الشمس…!
إن الدور الذي لعبه حميدتي ليس سياسياً ولا حتى عسكرياً كما يدّعي؛ إنه دور مخلوق يعيش على رائحة الخراب، ويتغذى على ضعف الآخرين، ويقفز فوق أكوام الرماد بحثاً عن مجده الشخصي. وهنا يكمن الخطر. فالرجل لا يعرف معنى الوطن، ولا يؤمن بمفهوم الدولة، ولا يضع اعتبارات إنسانية في حساباته. هو ابن اللحظة القاتلة، لا يقرأ المستقبل، ولا يحترم الماضي، ولا يفهم الحاضر إلا بوصفه مساحة مفتوحة للتوحش.
لقد حاول أن يجعل من السودان جسداً بلا عظم، دولة بلا جيش، وطناً بلا سيادة. لكنه نسي شيئاً واحداً : أن السودان لا يستسلم. وأن جيشه، مهما طال الليل، يبقى المؤسسة الأكثر صلابة في وادي النيل، وأن الناس، رغم الدم والدمار والجوع، يعرفون جيداً من الذي يريد لهم حياة، ومن الذي يريد لهم قبراً.
حميدتي لم يقاتل من أجل سلطة، بل من أجل إلغاء كل سلطة. لم يرَ في الجيش خصماً سياسياً بل خصماً وجودياً ، لأنه يعرف أنه لا يستطيع أن يصبح قائداً في دولة، بل زعيم مليشيا في مساحة مبعثرة. ولذلك كان همه الأول والأخير: تدمير الدولة لتبقى المليشيا هي الأصل الوحيد. ولكن ما لم يدركه هو أن السودان أكبر من أن يبتلعه، وأن الخراب الذي يظن أنه سيحكم من خلاله، سيلتهمه أولاً.
إن ما جرى ويجري ليس صراعاً بين طرفين، بل محاولة انقلاب على الجغرافيا والتاريخ والهوية. محاولة لتبديل جلد وطن كامل، وتحويله إلى رقعة محروقة لا صوت فيها إلا صوت السلاح. لقد ظنّ أن الخراب سيُسعفه، وأن الفوضى ستحميه، وأن المرتزقة سيصنعون منه رجل دولة، لكنه لم يدرك أن الخراب لا يخدم أحداً ، وأن الفوضى لا تمنح شرعية، وأن المرتزقة لا يبنون وطناً بل يلعنون كل أرض يطأونها.
اليوم، وبعد كل الدم الذي سال، وبعد كل البيوت التي احترقت، وبعد كل المدن التي جُرّدت من روحها، يتضح أن الرجل لم يكن يسعى إلا لشيء واحد: أن يصبح سيد الخراب. لكنه لم ينتبه إلى أن الخراب لا سيد له. وأن من يخدمه يفقد نفسه قبل أن يفقد الوطن. وأن الشعوب، مهما طال أمد الألم، لا تهزم. بل تعود لتكتب نهايات اعداء السلام
وحين نقول: عذراً أيها الخراب… حميدتي أصبح سيّدك ووريثك
فنحن لا نمزح ولا نبالغ.
نحن نصف الحقيقة كما هي:
رجل جذب الخراب إليه حتى غرق فيه.
وظن أنه يستطيع أن يحكم رماداً.
لكن الرماد لا يُحكم…
بل يبتلع من يحاول أن يبني عرشاً فوقه.
والسودان، رغم كل شيء، سيخرج من هذه المحنة، لأن الأوطان التي تملك ذاكرة من آلاف السنين لا تُهزم بمليشيا، ولا برجل، ولا بمرتزقة، ولا بعابري الخراب. السودان سيعود، وسينهض، وسيمسح وجهه من آثار السواد، وسيمشي إلى الغد كما يمشي الفجر، ببطء… لكن بثقة لا تنكسر.
أما حميدتي… فسيبقى مجرد صفحة سوداء في دفتر هذا الوطن، صفحة ستطوى بتنهيدة شعبٍ قرر أن يعيش، وبسواعد جيشٍ قرر ألا يترك بلده فريسة لغراب البين الذي ظن أنه سيظل سيد السماء.

