محمد ناصر العطوان
بينما كنا جلوساً نحن الثلاثة، أشار صديقنا إلى العولمة وكيف حولت العالم إلى سوبر ماركت ضخم مليء سلعاً رخيصة وعمرها قصير.
ثم قدم عرضاً لفكرته بطريقة رائعة جداً، جعلتني أرفع حواجبي أربع مرات في جلسة واحدة، وهو شيء نادر الحدوث منذ تخطيت الأربعين من العمر.
تخيل معي عزيزي القارئ! من 30 سنة كنت تشتري التلفزيون يعيش معك 20 سنة على الأقل... الآن تشتري تلفزيوناً ذكياً بعد سنتين يصبح «بطيئاً» وتضطر إلى تغييره! ماذا يحدث، وما سبب ذلك؟ الإجابة ببساطة أن العولمة تريد أن تقول لك: «كافي جودة... خلينا نبيع كمية!»
كيف دمرت العولمة جودة السلع؟ وكيف انتقلت من الإتقان للإنتاج الكمي؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نمر على نظرية «الإنتاج الضخم» حيث المصانع الكبرى تنتج 10 ملايين وحدة بدلاً من 100 ألف، والنتيجة ستكون الكم على حساب الكيف، وسلعاً شكلها جميل لكن جودتها رديئة، و60 % من السلع الاستهلاكية تعيش نصف عمرها المتوقع. وفي إحصائية صادمة من منظمة حماية المستهلك العالمية تقول إن 75 % من الأجهزة الإلكترونية تفشل بعد انتهاء الضمان مباشرة!
يخبرنا صديقنا «المثقف» كيف كان تأثير العولمة على جودة الأدوار واختفاء «الصانع الماهر»، حيث إن رداءة الجودة لم تضرب السلع فقط ولكن أيضاً ضربت الأدوار، وضرب مثلاً بالتعليم، فالمعلم تحول إلى «مشغل شاشة» وعروض بوربينت بدلاً معلم مربٍّ متفاعل، والنتيجة حسب كثير من الدراسات العربية أن 40 % من الخريجين غير مؤهلين لسوق العمل.
في الطب كذلك، فقد الدكتور الجودة وأصبح يعمل في «دوائر ونوبات» ولا وقت للتشخيص الجيد، ونقابة الأطباء أصبحت تصرخ أن متوسط زيارة المريض 7 دقائق فقط!
في الصناعة اختفى «الحِرفي المتمرس» وظهر العامل الآلي.
ولكن السؤال المهم الآن لماذا العولمة عدو الجودة؟ الإجابة ببساطة لأنها تسعى نحو معادلة الربح السريع، فالشركات تفضل بيع 100 منتج بعمر سنة إلى 100 عميل يشترون كل سنة، عكس بيع 10 منتجات بعمر 10 سنوات إلى 10 عملاء يشترون مرة كل 10 سنوات.
خذ على سبيل المثال نظرية «التقادم المخطط» حيث اعترفت شركات الهواتف أنها تبطئ الأجهزة القديمة من أجل أن تشتري الجديدة وفي دراسة قامت بها حماية المستهلك اكتشفت أن 40 % من الأعطال «مخطط لها» من المصنع.
عزيزي القارئ، إن تأثير تراجع الجودة لا يكون فقط على مستوى السلع، بل يمتد أثره على حياتنا اليومية.
ففي الملبس تظهر «موضة سريعة» وملابس تتلف بعد 3 غسلات تقريباً، لهذا كله أضرار بيئية... أما على مستوى المأكل فهو مجمد بدل الطازج، وفي إحصائية منظمة الصحة 30 % زيادة في الأمراض المرتبطة بالأغذية المصنعة... أما في المسكن فقد أصبح متوسط عمر المباني الحديثة 50 سنة بدلاً من 100 سنة.
مخطئ من يعتقد أن لهذا كله لا توجد كلفة خفية، فللجودة الرديئة كلفة عالية، مثل الكلفة البيئية 8 ملايين طن نفايات إلكترونية سنوياً، حيث العالم يخسر 100 مليار دولار سنوياً بسبب إهدار الموارد، أما الكلفة النفسية فحدث ولا حرج... إحباط مستمر من فشل المنتجات و25 % من الاكتئاب مرتبط بالإحباط من جودة الحياة.
ماذا يمكن أن نفعل تجاه هذا النوع من العولمة، وهل هناك بدائل؟ دائما عزيزي القارئ! هناك بدائل ممكنة ومقاومة العولمة الرديئة، مثل العودة للحرف اليدوية، ودعم الصناعة المحلية وشراء منتجات «مصنوعة بدقة».
كذلك نشر ثقافة الإصلاح بدل الاستبدال وإقامة ورش مجتمعية لتعليم الإصلاح.
من المهم على مستوى التشريعات الداعمة وجود قوانين تلزم الشركات بضمان 5 سنوات وغرامات على «التقادم المخطط».
عزيزي القارئ! رسالة أخيرة ختم بها صديقي جلستنا الرائعة قائلاً:
اشترِ أقل... لكن اشترِ أفضل... علم أولادك قيمة الإصلاح... لا تكن جزءاً من آلة الاستهلاك، فالجودة ليست رفاهية... هي استثمار في المستقبل. وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.

