ليس الصمتُ في حياة الإنسان فراغًا من الكلام؛ بل هو أحيانًا وطأةٌ خفيّة، تتسلل بلا أن تُحدِث أثرًا ظاهرًا، وتتمدّد في الروح حتى تغدو أثقل من كل أصوات العالم. فهناك ضغوط لا تأتي صاخبة، ولا تطلب إذنًا حين تتكئ على القلب؛ إنها تُقيم فيه بصمتٍ يستنزف القدرة على الاحتمال.
في زمنٍ يتكاثر فيه الإيقاع ويضيق فيه الوقت، تتخفّى الضغوط وراء مظاهر الاستقرار: مهامّ متواصلة، أدوار متشابكة، توقعات تتصاعد، ومسؤوليات لا تعرف نهاية. كل ذلك يتقدّم إلينا بملامح عادية، لكنه يخلّف انحناءة داخلية لا تُرى. هكذا يولد ما يمكن تسميته الإنهاك الصامت؛ تعبٌ لا يعلن حضوره لكنه يعيد تشكيل النفس من الداخل.
وتشتد وطأة هذا الصمت حين يتناقض الشعور الحقيقي مع الصورة التي يُطالَب بها الإنسان أمام محيطه. فكم من فرد يتظاهر بالتماسك، وهو يجرّ خلف ابتسامته معركةً يواجهها وحده. وكم من قلب يلوذ بالصمت خشية أن تُساء قراءة شكواه أو تُفسّر على أنها ضعف. وهكذا ينشأ التباعد بين ظاهرٍ يَبدو متماسكًا وباطنٍ يختزن أثقاله، فتتحول الضغوط من عارض إلى عبءٍ مُقيم.
ولا يصنع هذا الصمت غيابُ الكلمات وحده، بل بيئةٌ اعتادت تقييم الإنسان بقدرته على الصبر لا بوعيه بذاته. قسوة الإيقاع، وضيق المساحات الآمنة، وجفاف العلاقات اليومية؛ جميعها أسهمت في جعل البوح محاولةً معقدة، وفي تحويل الاحتياج إلى الدعم إلى أمرٍ يُؤجّل حتى تتفاقم تبعاته.
ويتقدّم هنا الدور الاجتماعي كضرورة إنسانية ملحّة؛ فالمجتمع الذي يمنح أفراده مساحةً يُفصحون فيها عن أثقالهم قبل أن تتحول إلى ألمٍ متجذّر، هو مجتمعٌ يحمي طمأنينته. الحاجة اليوم ليست إلى مزيدٍ من الصبر المرهق، بل إلى وعيٍ يُنصت، وقلوبٍ تحتضن، ومؤسسات تُدرك أن صحة الإنسان لا تقل شأنًا عن إنتاجه.
ومن هذا الإدراك تبدأ المصالحة مع الذات؛ حين يعترف الإنسان بما يضيق صدره، ويعيد ترتيب ما تراكم داخله، ويمنح نفسه الحق في طلب المساندة دون حرج. فالإهمال لا يُنقص من الضغوط، بل يضاعف أثرها، بينما الاعتراف يُضيّق على الصمت دوائره.
وفي خاتمة المشهد، لا تُقاس قوة الإنسان بحجم ما يتحمله، بل بقدر ما يصون نفسه قبل أن تُنهكها الضغوط الصامتة.
ويبقى السؤال الأعمق:
هل نعيش في انسجامٍ حقيقي… أم نواصل السير تحت ثقل صمت الضغوط؟

