يشهد العالم تحولاً نوعياً ينتقل فيه من عصر الدول المنعزلة إلى عصر الدول المتصلة؛ حيث لم تعد القوة تُقاس بالجغرافيا أو السلاح، بل بقدرة الدولة على التحكم في التجارة والطاقة والبيانات داخل شبكة عالمية تتسارع وتيرتها. وفي هذه البيئة الجديدة، يغدو التنافس بين الولايات المتحدة والصين أكثر من مجرد صراع بين قوتين؛ فهو اختبار لقدرة الدول على التكيف والبقاء. وفي هذا الإطار، تبرز المملكة العربية السعودية كنموذج لدولة انتقلت من موقع «رد الفعل» إلى موقع «صناعة الفعل»، عبر نهج يمكن وصفه بـ دبلوماسية بناء الجسور والمصالح.
1. كيف تغيّر العالم؟ من «الصناديق المغلقة» إلى «شبكات المصالح»
لطالما صُوِّرت الدولة كنظام مغلق يقرر من داخله ويتعامل مع العالم وفق حدود صلبة. أما اليوم، فقد بات العالم شبكة واسعة من نقاط العبور ومسارات الطاقة والبيانات والتجارة، تتشابك عبرها مصالح الدول أكثر مما تتقاطع حدودها. ومع هذه البنية الشبكية، لم تعد السيطرة على الأرض معياراً للقوة، بقدر أهمية القدرة على التحكم في الشرايين الاقتصادية العالمية: الموانئ، التكنولوجيا، المعادن النادرة، وسلاسل الإمداد.
وفي عالم سريع التحول، تظهر الفروق بين الدول بوضوح؛ فهناك من يستهلك جهده في حركة لا تُنتج أثراً، وهناك من يتقن تحويل حركته إلى نتائج قابلة للقياس، وهو ما نسميه اليوم الفعالية القصوى.
2. التحدي الأمريكي: حين يضعف التماسك الداخلي
برغم مكانتها كأقوى قوة اقتصادية وعسكرية، تعاني الولايات المتحدة من تراجع واضح في تماسكها السياسي والاجتماعي. فالاستقطاب الحاد بين الحزبين، وتبدّل السياسات بين الإدارات، والجدل المستمر حول أولويات الإنفاق، جميعها عوامل تُضعف الاستقرار الداخلي وتنعكس مباشرة على ثبات السياسة الخارجية.
وقد أدى هذا الاضطراب إلى تردد الحلفاء في الاعتماد الكامل على واشنطن، وإلى تباين مواقفها من الصين بين التشدد والانفتاح، وإلى اهتزاز قدرة الدولة على اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة المدى. وفي الخلفية، تستنزف الولايات المتحدة جزءاً كبيراً من قوتها في معالجة مشكلاتها الداخلية، على حساب تركيزها المفترض على إدارة التنافس مع الصين. وهكذا يتأكد أن قوة السلاح لا تكفي ما لم تستند إلى تماسك داخلي قادر على دعمها.
3. التحدي الصيني: عقبة «القبول الدولي»
في المقابل، تبدو الصين أكثر صلابة في الداخل، وتمتلك اقتصاداً صناعياً عملاقاً، لكنها تواجه صعوبة حقيقية في بناء قبول دولي واسع. فبرغم دورها الحيوي كمصنع العالم، لا تزال الدول الكبرى والإقليمية تنظر إليها بحذر، سواءً بسبب مخاوف الاعتماد المفرط عليها، أو توتر علاقاتها الإقليمية، أو غياب خطاب سياسي وثقافي قادر على إقناع العالم بقوة صعودها.
كما أن التوتر مع اليابان والهند وجيران بحر الصين الجنوبي، إلى جانب قيود التكنولوجيا الأمريكية، يجعل تحالفاتها أقل ثباتاً. وتجد بكين نفسها أمام معادلة غير متوازنة: قوة اقتصادية هائلة تُقابلها قدرة محدودة على تحويل هذا الثقل إلى نفوذ دولي مستدام.
4. السيناريوهات الثلاثة: إلى أين يتجه العالم؟
يتأرجح النظام الدولي بين ثلاثة مسارات محتملة.
أولها سيناريو التراجع والانكفاء، الذي يتشكل إذا تصاعدت الحرب التجارية والتقنية، بما يؤدي إلى ارتفاع التكلفة العالمية وتقطع سلاسل الإمداد. وثانيها سيناريو الاستقرار النسبي، حيث يدير الطرفان خلافاتهما بحد أدنى يمنع الانفجار ويُبقي الاقتصاد العالمي في حالة تنفس مستمر. أما السيناريو الأكثر واقعية فهو صعود دول قادرة على الاستفادة من التوتر بين واشنطن وبكين، وبناء موقع مستقل عبر شبكة واسعة من العلاقات والمصالح. وفي هذا المسار، تبرز دول مثل السعودية والهند والإمارات بوصفها لاعبين جدداً يصنعون موقعهم بعيداً عن معادلة الاصطفاف.
5. النموذج السعودي: هندسة النجاح والفعالية
قدّمت المملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة نموذجاً نوعياً في إعادة صياغة موقعها العالمي. فبدلاً من الاكتفاء بحماية حدودها، تحولت إلى محطة محورية في حركة الاقتصاد العالمي، خاصة في الطاقة والاستثمار واللوجستيات. وأصبح موقعها الجغرافي جزءاً من تصميم استراتيجي واسع يعيد رسم أدوارها السياسية والاقتصادية.
كما تبنت المملكة سياسة تقوم على تنويع الشراكات، فوسّعت علاقاتها مع الولايات المتحدة، وعززت تعاونها الاقتصادي مع الصين، وفتحت مسارات جديدة مع أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، مما أعطاها استقلالية القرار وعمقاً استراتيجياً متقدماً. ومع نجاحات رؤية 2030 في تحسين جودة الحياة وتطوير البنية التحتية وتنويع الاقتصاد، اكتسبت المملكة شرعية داخلية قوية أصبحت محوراً لتعزيز موقعها الخارجي وثقة المجتمع الدولي بها.
الخلاصة: البقاء للدول الأكثر تماسكاً واتصالاً
تُظهر التحولات الجيوسياسية أن القوة في عالم اليوم ليست نتاج الحجم أو السلاح أو الثروة فحسب، بل نتيجة تماسك داخلي راسخ، وشرعية خارجية معترف بها، وديناميكية سيادية تستوعب التغيرات، ورشاقة تشغيلية قادرة على تحويل القرارات إلى نتائج ملموسة. وهذه الخصائص مجتمعة هي التي تجعل اتصال الدولة بالعالم أكثر فاعلية وتأثيراً.
وفي ظل عالم تتغير موازينه باستمرار، تبرز المملكة العربية السعودية كنموذج للدولة التي تبني الفرص ولا تكتفي بردّ الفعل، وتخلق لنفسها موقعاً فاعلاً داخل شبكة دولية تتجه نحو مزيد من التعقيد، لكنها تمنح فرصاً واسعة لمن يتقن قراءة لحظتها وصياغة مستقبله بثقة ووضوح.

