بعد مرور أكثر من عامين على اندلاع حرب غزة، التي وُصفت بأنّها الأكثر دموية في تاريخ الصراع الفلسطيني، لا يزال القطاع يئنّ تحت وطأة الدمار الشامل. اتفاق شرم الشيخ الذي أُعلن في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2025، برعاية مصرية أميركية وبدعم الدول، كان يفترض أن يفتح الباب أمام مرحلة جديدة: وقف دائم لإطلاق النار، إطلاق سراح الرهائن تدريجياً، ثم انتقال سريع إلى إعادة الإعمار بتمويل دولي يصل إلى خمسين مليار دولار على خمس سنوات.
لكن بعد شهر ونصف الشهر فقط، يبدو الاتفاق عالقاً عند المرحلة الأولى. المرحلة "ب" التي تشمل إعادة بناء المستشفيات والمدارس وشبكات الكهرباء والمياه لم تبدأ بعد، وذلك لسبب واضح: الشروط الأمنية لم تُنفّذ بالكامل من الجانبين.
إسرائيل تشترط، قبل السماح بدخول كميات كبيرة من مواد البناء، ضمانات عملية بوقف أي نشاط عسكري فلسطيني قرب السياج أو في الأنفاق الحدودية. الجيش الإسرائيلي يعلن يومياً عن رصد تحركات مسلحة في رفح، وعن إطلاق قذائف هاون أو نيران أسلحة خفيفة متقطعة على قواته، وهي حوادث — مهما كانت محدودة — تكفي لتجميد أي تقدّم. في المقابل، تواصل إسرائيل تنفيذ غارات جوية أحياناً، كان آخرها قبل أيام وأدّى إلى سقوط أكثر من ثلاثين قتيلاً، وهو ما يُعتبر خرقاً واضحاً من جهتها أيضاً.
المشكلة الأساسية تكمن في بند نزع السلاح التدريجي. حماس ترفض تسليم أسلحتها كلياً قبل ضمانات دولية ملزمة بإنهاء الحصار وانسحاب القوات الإسرائيلية من الممرّين الجنوبي والشمالي. هذا الرفض مفهوم من زاوية الحركة التي ترى في السلاح رادعاً وحيداً أمام قوّة عسكرية متفوّقة، لكنه في الوقت نفسه يعطّل فعلياً تدفّق المساعدات الإنشائية الكبيرة التي يربطها المانحون بضمانات أمنية صلبة.
النتيجة المباشرة هي أنّ أكثر من مليوني إنسان ما زالوا يعيشون وسط الأنقاض. نسبة الفقر تجاوزت 80 بالمئة، و90 بالمئة من السكان يعانون من انقطاع الكهرباء لساعات طويلة يومياً، والعواصف الشتوية الأخيرة غمرت آلاف الخيام. كل يوم تأخير في إعادة الإعمار هو يوم إضافي من معاناة لا يستطيع أحد تبريرها.
ولا يمكن تحميل طرف واحد كامل المسؤولية، فإسرائيل تمارس ضغطاً عسكرياً مستمراً وتضع شروطاً قاسية، وحماس تتمسك بموقف أيديولوجي وعسكري يصعب تبريره إنسانياً في هذه المرحلة بالذات، ولكن الضحية الوحيدة المؤكدة هو المواطن الغزّي الذي لا يملك ترف الانتظار حتى يتفق السياسيون والعسكريون على صيغة مرضية للجميع.
إعادة إعمار غزة ليست مجرد مشروع بناء، بل هي فرصة لإعادة بناء الثقة بين الأطراف. الانتهاكات قرب الخط الأصفر والأنفاق في رفح، إضافة إلى الإطلاق الناري المتقطّع، تُشير إلى حاجة ماسّة لآليات رقابة دولية مستقلة، مثل قوة حفظ سلام مشتركة. أمّا رفض نزع السلاح، فإنّه يحتاج إلى إطار يضمن الحق في الدفاع الذاتي دون تهديد الجيران، ربما عبر دمج قوات أمن فلسطينية موحّدة. السكان في غزة يستحقون أكثر من الوعود؛ يستحقون أفعالاً تحوّل الدمار إلى أمل. إذا استمرت التأخيرات، فإنّ الاتفاق لن يكون سوى فصل آخر في تاريخ الصراع، لكنه إذا نجح، قد يفتح باباً لسلام مستدام يُعيد رسم خريطة الشرق الأوسط. الوقت يداهن، والشعب الفلسطيني ينتظر.
في النهاية، السلام في غزة لن يأتي بقرار مفاجئ أو انتصار عسكري، بل بقرار جماعي يضع حياة الناس فوق كل اعتبار آخر، وحتى الآن، هذا القرار ما زال مؤجّلاً.


