في بنية التربية المعاصرة، تُطرح المنافسة الأكاديمية بوصفها محفزًا جوهريًّا للتفوق، ومحرّكًا للدافعية نحو الإنجاز، حتى غدت في بعض البيئات المدرسية والجامعية نمطًا تأسيسيًّا للنجاح، لا يُقاس فيه التعلّم بمعاييره الجوهرية، وإنما بما يُحقّقه الطالب من تَقدُّم على أقرانه. بيد أنّ هذه المنافسة، حين تُفرَط عقالها وتُنزَع عن مقاصدها التربوية الحقة، تؤدي إلى انقلاب معرفي داخلي خفي؛ ما نصطلح عليه في هذا السياق بـ"الارتداد النفسي المعرفي Cognitive-Affective Reversal".
ويُشير مفهوم "الارتداد النفسي المعرفي" إلى حالة يَنقلب فيها فعل التعلُّم من كونه نشاطًا داخليًّا مُشبِعًا، إلى عبء نفسي ضاغط. ويحدث هذا التحول حين يُحمَّل التحصيل العلمي بأثقال التنافس الخارجي، والمقارنة الدائمة، والتصنيف المستمر؛ فيفقد المتعلّم صلته الوجدانية بالمعرفة، ويتحوّل من باحث عنها إلى ملاحَق بها.
فالطالب الذي كان يُقبل على الدرس حبًّا واكتشافًا، يُصبح بعد أن يُغرق في منطق التنافس مشروطًا بالتفوق، ومقيدًا بمقارنة لا تهدأ، حتى إذا بلغ مراتب عليا في التحصيل، لم يأنس بثمرتها، بل يجد في أعماقه فراغًا صامتًا، يشهد على أن ما أُنجز لم يكن له، حيث هو لـ"نظام التفوق" الذي لا يعرف الرحمة.
لهذا ينبغي - وفقًا للمنطق الاستدلالي - أن يُبنى الحكم التربوي على أثر المعرفة في كيان المتعلم لا على ظاهر الأداء فحسب، إذ الغرض من التعليم بناء الإنسان بالمعرفة وليس فقط إنتاجها .
لكن حين تتحول المعرفة إلى وسيلة لترتيب الأفراد داخل سلّم تنافسي صارم، تنفصل عن قيمتها الوجودية وتفقد معناها الجوهري، ويقع المتعلم في سلسلة من الأضرار المتراكمة:
- احتراق وجداني صامت؛ حيث تتآكل دوافع التعلم الباطنية، ويذبل الشغف شيئًا فشيئًا.
- انفصال عن الهوية الذاتية؛ إذ يتشكّل لدى الطالب وعيٌ مُزيّف، ويرى فيه نفسه بما يحققه من نتائج لا بما يملكه من فهم أو روح علمية.
- تسليع التعلم وتحويله إلى منتج للمقارنة، لا إلى أداة تفكّر أو وسيلة تحرّر.
وهنا، تنقلب العلاقة بين الطالب والمعرفة إلى علاقة ضغط، لا إلهام؛ استهلاك، لا بناء؛ وبذلك يتحقق الارتداد النفسي المعرفي في صورته التربوية الأشد خطورة.
إن الحُجّة التي تستند إلى أن التنافس يصنع التفوق قد تصحّ ضمن أطر محددة ومحكومة بضوابط نفسية وتربوية، أما إذا تُرك بلا سقف، فإن سُموّ التنافس الظاهري يخفي تحطيمًا داخليًا بطيئًا.
ففي الصفوف العليا، نرى طلابًا يتصدرون قوائم الامتياز، لكنهم ينهارون نفسيًا في صمت؛ لأنهم أصبحوا يخشون الإخفاق أكثر مما يحبون النجاح، ويخوضون سباق التميز بدافع القلق لا الطموح، ويمارسون التعلّم كواجب مرهق لا كلذة فكرية.
إنّ هذا النوع من التميز لا يُبنى على النمو الذاتي الواعي، وإنما على تراكب المقارنات، وترسّخ الخوف، وتضخم الهوية الأكاديمية الزائفة، حتى يُصبح التعلم ذاته أداة للقلق، لا طريقًا للسكينة.
وإذا أردنا تفادي الانحدار نحو الارتداد النفسي المعرفي، فعلينا أن نحرر التعلّم من هيمنة التنافس الخارجي، ونعيد توجيهه نحو الذات الباحثة المتذوّقة التي تتحقق من خلال:
- إعادة الاعتبار إلى قيم التفكّر، والتأمل، والتساؤل الذاتي داخل الصف، لا إلى التحصيل الكمي فحسب.
- إرساء مناهج دراسية تُنمّي حبّ المعرفة لأجل المعرفة، وتفصل بين الإنجاز كقيمة داخلية وبين المركز كحكم خارجي.
- توفير بيئة تعليمية تقدّر التنوّع، وتشجع على التعبير عن الذات لا محاكاتها لغيرها.
- صياغة أدوات تقويم لا تُلغي الاختلاف، وإنما تحتفي به وتستثمره.
إنَّ التربية، في جوهرها، ليست سباقًا نحو الأرقام، ولا تصنيفًا للطلبة داخل هرم التفوق... حيث هي في أصلها فعل إنقاذ للذات من التكرار، وتحريض دائم على التساؤل، وبناء لهوية معرفية أصيلة.
وإذا انقلبت المعرفة على صاحبها، لأن التميز فيها أصبح عبئًا لا متعة، فقد آن الأوان أن نعيد النظر في المنهج ذاته، وفي الفلسفة التي تحكمه.
إننا لا نرفض التفوق، ولكن نرفض التفوق القائم على استنزاف الروح، والمفروض قسرًا من خارج المدارس. أما التفوق الذي يُبنى من الداخل، بفرح التأمل وبهجة السؤال، فهو الذي يُبقي المعرفة حية، ويصنع تعليمًا لا يُنبت الاكتئاب، وإنما ينقضه من جذوره.