في الشرق الأوسط المتغير، تتجلى قوة الدول الإقليمية في قدرتها على صياغة قواعد اللعبة، والتحالف السعودي-الإماراتي هو المثال الأبرز على ذلك. فقد أصبح الجميع يعلم أن هذا التحالف هو مشروع استراتيجي كبير وحصين، يهدف إلى حماية الشرق الأوسط وإعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة عبر أدوات متنوعة، تجمع بين الاقتصاد، والدبلوماسية، والتأثير الجيوسياسي. وكما كانت "خطة مارشال" الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية خطوة حاسمة في إعادة إعمار أوروبا وتثبيت النفوذ الأمريكي، فإن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة اليوم تضعان الأسس لنظام إقليمي جديد، يوازن بين المصالح الوطنية والاستقرار الإقليمي.
التحالف السعودي-الإماراتي هو امتداد لعلاقات تاريخية ضاربة في عمق الجغرافيا والسياسة. فمنذ بدايات القرن العشرين، لعب البلدان دورا مشتركا في تشكيل بنية الخليج السياسية، عبر المواقف الموحدة تجاه التحديات الإقليمية، ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، أخذ هذا التحالف منحى أكثر تنظيماً، إذ أدركت الدولتان أن استقرار المنطقة يتطلب تجاوز التفاعلات التقليدية نحو سياسات أكثر استباقية.
في السنوات الأخيرة، تبنّت السعودية والإمارات استراتيجية شاملة تقوم على الاستثمار في النفوذ الإقليمي. إحدى أبرز الأدوات المستخدمة هي القوة الاقتصادية، حيث تتجه الدولتان إلى تنويع مواردهما بعيدا عن الاعتماد المطلق على النفط، من خلال مشاريع طموحة مثل "رؤية السعودية 2030" و"مئوية الإمارات 2071". وهذه المشاريع تعكس رؤية استراتيجية لتحويل الخليج إلى مركز عالمي للاستثمار والتكنولوجيا، وهي مقاربة شبيهة بما فعلته الولايات المتحدة في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، حيث ربطت واشنطن الاقتصادات الأوروبية بنظامها المالي والسياسي.
إضافة إلى الاقتصاد، استخدمت الدولتان الدبلوماسية متعددة الأقطاب كأداة لتعزيز دورهما الإقليمي. فمن خلال تعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، والاحتفاظ بشراكات وثيقة مع الولايات المتحدة وأوروبا، باتت السعودية والإمارات قادرتين على المناورة بين القوى الكبرى، مما مكنهما من تحقيق مصالحهما دون التبعية لأي محور. فمثلاً، لعبت السعودية مؤخرا دور الوسيط في محادثات السلام، بينما عززت الإمارات علاقاتها التجارية مع موسكو، والسياسية مع كييف، في رسالة واضحة بأنهما تمتلكان قدرة التأثير على المشهد العالمي.
في موازاة ذلك، وعت الرياض وأبوظبي أهمية الأدوات العسكرية في تحقيق الأمن الإقليمي، فعملتا على تحديث جيوشهما وتعزيز الصناعات الدفاعية المحلية، بما يضمن استقلالية القرار الاستراتيجي. ولم تكن المشاركة العسكرية في اليمن مجرد تدخل لحماية الشرعية، بل رسالة مفادها أن الخليج قادر على الدفاع عن مصالحه بنفسه، دون الحاجة إلى تدخل خارجي. كذلك، نجحت الدولتان في دعم الاستقرار في مصر بعد 2013، من خلال تقديم المساعدات الاقتصادية للقاهرة كاستثمار استراتيجي يضمن وجود الشريك الشقيق الإقليمي قوي قادر على ضبط ميزان القوى في المنطقة.
التعامل مع القوى الإقليمية الأخرى شكّل ركيزة أساسية في استراتيجية التحالف السعودي-الإماراتي. فمع إيران، اعتمدت الدولتان سياسة الاحتواء عبر تعزيز التحالفات مع الدول المجاورة مثل الأردن والعراق، إضافة إلى إقامة شراكات أمنية مع الولايات المتحدة وفرنسا. أما تركيا، فقد شهدت العلاقات معها تحولاً من التوتر إلى البراغماتية، حيث تم استيعاب أنقرة ضمن إطار التوازن الإقليمي بدلاً من المواجهة المباشرة.
في القضية الفلسطينية، تعامل التحالف السعودي-الإماراتي بواقعية استراتيجية، بعيد عن الشعارات التقليدية. فقامت الإمارات بتوقيع "الاتفاق الابراهيمي" مع إسرائيل، واعتمدت السعودية سياسة تقوم على استخدام التطبيع كورقة ضغط لتحقيق المزيد من المكاسب للفلسطينيين، بما في ذلك تقديم مقترحات تتعلق بضمانات دولية لحقوقهم. هذه المقاربة تعكس نضجا دبلوماسيا يختلف عن نهج الماضي، حيث يتم توظيف العلاقات الدولية لتعزيز النفوذ بدلاً من الاكتفاء بالمواقف الرمزية.
في ظل هذا التحول، يمكن تشبيه الدور السعودي-الإماراتي اليوم بدور الولايات المتحدة في خطة مارشال، على مستوى أكثر تطورا وجدية ورؤية، فالنهج الذي تتبعه الدولتان، سواء الاستثمار في البنية التحتية، وتمويل المشاريع الاقتصادية، أو دعم الاستقرار السياسي في دول المنطقة، وبناء شركات وتحالفات متينة، كلها استراتيجيات تشابه ما قامت به واشنطن في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. الفرق هنا أن الرياض وأبوظبي لا تعملان ضمن نظام دولي تقوده قوة عظمى واحدة، بل في عالم متعدد الأقطاب، حيث يتطلب النجاح مرونة أكبر في التحالفات والسياسات.
المستقبل يحمل تحديات وفرصا كبيرة للتحالف السعودي-الإماراتي. فمع تراجع الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط، تصبح الحاجة أكبر إلى بناء نظام أمني واقتصادي ذاتي، قادر على حماية مصالح المنطقة دون الاعتماد على قوى خارجية. كما أن التطورات التكنولوجية، والتحولات في أسواق الطاقة، والتغيرات في المشهد السياسي العالمي، ستفرض على الرياض وأبوظبي التطوير الدائم لاستراتيجية تحالفهما العميق، بناء على كافة المتغيرات، لضمان استمرار تفوقهما الإقليمي.
واضح تماما، إن السعودية والإمارات تعملان على إعادة تعريف مستقبل المنطقة وفق رؤية تستند إلى القوة الاقتصادية، والدبلوماسية الذكية، والتخطيط الاستراتيجي. وكما غيرت خطة مارشال شكل أوروبا، فإن ما يحدث اليوم في الخليج قد يكون بداية لمرحلة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط، حيث لم تعد الدول الكبرى وحدها من يضع قواعد اللعبة، بل أصبحت هناك قوى إقليمية تملك القدرة على رسم المسار.