دون الدخول في تفاصيل النظريتين، فإنَّ نظرية البجعة السوداء مصطلح أطلقه الفيلسوف الأميركي اللبناني الأصل نسيم نقولا طالب، أستاذ علم اللايقين، والتي من خلالها يُطرح تساؤل: هل يمكن التنبؤ بأحداث غير متوقعة ذات أثر واسع النطاق؟ وذلك في سياق التنبؤ بأشياء يستحيل حدوثها، على اعتبار أنَّ جميع البجع يتميز بلونه الأبيض، وبالتالي يُعد وجود بجعة سوداء أمراً مستحيلاً.
أما نظرية الفراشة، فالمقصود بها أنَّ رفرفة جناح فراشة في الصين قد تسبب فيضانات وأعاصير في أوروبا وأفريقيا وأميركا وآسيا، وأن رفرفة جناح فراشة في البرازيل قد تؤدي إلى عاصفة في الصين. وكما يُقال: معظم النار من مستصغر الشرر. هناك أمثلة كثيرة على نظرية الفراشة، أسوق بعضاً منها قبل الدخول في الحالة الفلسطينية.
يُقال إنه أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي 28 أيلول (سبتمبر) 1918، عثر جندي بريطاني على جندي ألماني جريح أشفق عليه ولم يقتله، ولو كان ذلك الجريح هو أدولف هتلر، فماذا لو قتله؟ ربما لم تقم الحرب العالمية الثانية. هذا ما يمكن وصفه بـ "حركة فراشة" أدت إلى عاصفة كونية. وماذا لو لم يُحرق بوعزيزي نفسه في تونس، هل كانت ستقوم ثورات وتحولات الربيع العربي؟ وماذا لو لم تتم عملية الطوفان، هل كانت ستندلع الحرب على غزة ويشهد القطاع هذا الدمار؟ وماذا لو لم يُغتل إسحق رابين وياسر عرفات، هل كان يمكن أن يتحقق السلام وينتهي الصراع؟
إقرأ أيضاً: الأخوة الأعداء!
تساؤلات كثيرة تُطرح حول كيفية الاستفادة من هذه النظرية. فالقائد يمكنه استثمار حدث صغير ليصنع منه عاصفة كبيرة، كما يمكنه توظيف حادثة محددة مع شخص معين في زمان ومكان معينين لتتحول إلى قضية ذات تأثير ضخم. مثال على ذلك: اعتقال السيدة باركر كان سبباً في ثورة مارتن لوثر كينغ، وتشجيع غاندي لحركات المقاومة السلمية أدى إلى تحرير الهند من الإمبراطورية البريطانية.
ولا يقتصر تأثير نظرية الفراشة على القادة فقط، بل يمتد إلى الشعوب أيضاً. فعندما سُئل ممثل الحكومة الشيوعية في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 عن السماح للناس بالسفر إلى برلين الغربية، قال: "حالاً"، فاندفع الناس إلى الجدار ليحطموه، في مشهد مشابه لما حدث في رومانيا عندما اندلعت الثورة هناك.
لكنَّ هذه النظرية ليست سهلة التطبيق، فهناك من يضع العراقيل لاحتواء تأثير الفراشة عبر تبني استراتيجية الضغط المميت، وإبعاد الناس عن دوافعهم الحقيقية، وإلهائهم بمساعدات تبقيهم في دائرة الانتظار، ما يجعلهم ينسون واقعهم المؤلم. وهذا ما يحدث في غزة اليوم، إذ يجري الحديث عن هجرة مليونَي نسمة بسبب عدم صلاحية الحياة بعد الحرب.
غزة اليوم، رغم صغر مساحتها وهامشية موقعها، إلا أن تأثيرها يمتد على كافة المستويات، تماماً كتأثير الفراشة. فالحراك الطلابي في العواصم العالمية، والمسيرات الشعبية التي تجوب المدن الكبرى، واللقاءات الدبلوماسية المتعددة، والتأثيرات الجيوسياسية في المنطقة وعلى النظام الدولي، جميعها تأثرت بما يجري في غزة. حتى فوز الرئيس ترامب لم يكن بعيداً عن تداعيات هذه الحرب.
إقرأ أيضاً: الإمارات والسلام الإيجابي التقدمي
وهنا يظهر الترابط بين نظريتي الفراشة والبجعة السوداء، فقد كشف الباحث الهولندي ويليام جونسون عن وجود بجعة سوداء، ما يعني أن المستحيل يمكن التغلب عليه. الخلاصة هي أن استثمار "حركة الفراشة" قد يقود إلى خلق "بجعة سوداء".
لكن، ما علاقة هاتين النظريتين بالسياسة الفلسطينية والقيادات الفلسطينية؟ هل كان بمقدورهم التنبؤ بما قد يترتب على عملية الطوفان؟ وهل امتلكوا القدرة على قراءة التطورات السياسية داخل إسرائيل والتكيف معها؟
كان هذا من ضروب المستحيل، وهو إما ناجم عن عدم القدرة على التنبؤ، وإما يعكس فشلاً في تقدير الحسابات السياسية، ما يؤدي إلى اتخاذ خطوات غير مدروسة. كما أن السياسات الإسرائيلية، بالعودة إلى تاريخ الحركة الصهيونية ومؤتمراتها، كانت تهدف منذ البداية إلى إقامة دولة في فلسطين. فهل كان بالإمكان التنبؤ بمراحل وتطورات الحركة الصهيونية؟ يبدو أن هذا لم يكن قائماً، فجاءت السياسات الفلسطينية في كثير من الأحيان كردود فعل غاضبة وغير محسوبة.
حتى مع توقيع اتفاقات أوسلو، اعتقدت القيادة الفلسطينية أنَّ السلام بات قريباً وأن الدولة الفلسطينية قادمة، لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً، إذ شهدنا انقلاباً على التوقعات، واستمراراً في مشاريع الاستيطان والضم. وبالتالي، فإن عدم القدرة على التنبؤ، سواء في فهم السياسة الفلسطينية الداخلية أو تطور حالة الانقسام الفلسطيني إلى حالة من الانفصال السياسي، أدى إلى أخطاء مكلفة.
إقرأ أيضاً: ما بين المقاومة السلمية والمقاومة العسكرية
هل توقع أحد الحرب الحالية على غزة؟ تصريحات موسى أبو مرزوق التي قال فيها: "لو كنا نعلم أن نتيجة الطوفان ستكون الحرب، لما حدثت"، تعكس غياب التخطيط المسبق.
أهمية النظريتين فلسطينياً تكمن في القدرة على التنبؤ بمسار الأحداث، وهو أمر جوهري لصانعي السياسة والقادة. ففي الحالة الفلسطينية، فإن الأحداث والتطورات تخضع لعوامل خارجية تتحكم في مسار القضية. إنَّ غياب القدرة على التنبؤ بما يجري داخل إسرائيل، وهي الأكثر تأثيراً في القرار الفلسطيني، أدى إلى اتخاذ قرارات خاطئة كانت تكلفتها باهظة.
ومثال آخر على ذلك: هل كان يمكن التنبؤ بالانقسام الفلسطيني واتخاذ تدابير لمنعه؟ وما يجرى اليوم في العالم العربي من تحولات في العلاقة مع إسرائيل، هل كان بالإمكان توقعه؟
الرهان على المجهول والجلوس في انتظار الأحداث للتعامل معها لاحقاً يؤدي إلى خسارة القضية زمنياً. فأي حل مستقبلي يتوقف على القدرة على توقع الأحداث، ثم التخطيط لها لاحتوائها أو استثمارها.
أمَّا من حيث تأثير نظرية الفراشة، فمن المفترض أن أحداثاً صغيرة شهدتها الأراضي الفلسطينية كان يمكن استثمارها وتحويلها إلى قضايا كبرى، مثل قتل الأطفال، والاعتداءات الصهيونية المتكررة، واقتحامات المسجد الأقصى. لكن تبني سياسة احتواء تأثير هذه الأحداث خوفاً من تداعياتها العكسية فلسطينياً، أدى إلى فقدان فرص كبيرة كان يمكن استثمارها.
إقرأ أيضاً: هل من حاجة لمنظمة التحرير؟
في الحياة السياسية، هناك أحداث صغيرة لكنها مهمة، والتحدي يكمن في كيفية تحويلها إلى عواصف سياسية ذات مردود إيجابي. يبقى أن التعامل مع القضية الفلسطينية يجب أن يرتكز على القدرة على التنبؤ بالمستقبل، والخروج من دائرة استراتيجيات الرهان والانتظار.
ويبقى التساؤل الأهم: كيف سيكون شكل النظام السياسي الفلسطيني بعد الحرب؟ وما مستقبل السلطة الفلسطينية؟ وهل هناك أفق لحل الدولتين؟ وما السبيل إلى الدولة الفلسطينية؟ هذه التحديات الكبيرة تُبرز أهمية فهم تأثير نظرية الفراشة، والتي تفسر لنا مآلات السياسة الفلسطينية وحالة الفشل السياسي للقيادة.