في خضم الأحداث التي شهدها الساحل السوري، برزت قاعدة "حميميم" الروسية كفاعل مهم وسط مناخ من الاستقطاب الحاد المفعم بالاحتقان الطائفي. فرغم الدعاية السلبية التي روجتها أطراف من حاشية نظام الأسد، وأخرى موالية لإيران، حول دور لها في تحريك الأحداث، إلا أن مجريات الأمور برهنت زيف تلك الادعاءات التي رمت إلى خداع جمهور واسع. وعلى العكس من ذلك، لعبت القاعدة دور الضامن لحياة آلاف المدنيين الذين فروا من القتل بعدما تقطعت بهم السبل، حيث فتحت أبوابها لإيوائهم وتقديم المساعدات الإنسانية والصحية لهم، بالإضافة إلى الأمان الذي كان ينشدونه.
الأمر الذي يدفع إلى تسليط الأضواء على هذه القاعدة المشرفة على المياه الدافئة في المتوسط، وعلى الدور الفاعل المنوط بها من قبل موسكو، منذ اتخذتها قاعدة لوجودها بموجب اتفاقات مع نظام حكم بشار الأسد.
رعاية المصالحات المجتمعية
هي قاعدة جوية عسكرية تقع جنوب شرق مدينة اللاذقية في بلدة "حميميم"، بالقرب من مطار "الباسل" الدولي. أُنشئت على أرض كانت مطارًا صغير الحجم ونادر الاستخدام بموجب اتفاق روسي – سوري في آب (أغسطس) عام 2015. مذاك، عكفت موسكو على تطويرها، فوسعتها لتصبح مساحتها نحو 3 ملايين متر مربع، وأنشأت بنى تحتية ووحدات سكنية ومناطق رياضية، بالإضافة إلى مركز صحي ومستشفى ميداني ومطاعم.
لم يكن الهدف من تأسيس هذه القاعدة هو الوجود العسكري فقط، بل لعبت دورًا اجتماعيًا وسياسيًا خلال سنوات الاضطراب الأهلي في سوريا، والتي نتج عنها تفسخ النسيج الاجتماعي بشكل كارثي يصعب ترميمه.
في شباط (فبراير) 2016، أسست موسكو في القاعدة "مركز تنسيق المصالحة" بموجب اتفاق روسي – أميركي، وتفاهمات مع تركيا، لتطبيق آلية مراقبة وقف إطلاق النار وإبرام المصالحات المجتمعية بين نظام الأسد والمعارضة على اختلاف منظماتها وتلاوينها، مع استثناء منظمة "داعش" الإرهابية.
أنجز المركز آلاف المصالحات التي كان يعلن عنها دوريًا، بينها أكثر من 1000 مصالحة خلال عام 2017 وحده، أفضت إلى انضمام مراكز سكنية إلى النظام ووقف الأعمال القتالية، وبالتالي حقنت الكثير من الدماء، التي كان النظام وحليفه الإيراني يشجعان على سفكها ضمن استراتيجيتهما في استخدام سياسة الضغط القصوى لبث الرعب.
واستفادت قوى المعارضة من المصالحات التي أبرمها مركز التنسيق للحفاظ على حياة قادتها والبقاء ضمن الجغرافيا السورية، وهذا ما مكنها من العودة إلى لعب دور فاعل في إسقاط حكم بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، حيث كانت فصائل المعارضة القادمة من درعا وريف دمشق هي أول الداخلين إلى العاصمة السورية، وهي من تولت تطهير المؤسسات ومراكز الحكم وتعبيد الطريق أمام "إدارة العمليات العسكرية"، والتي كانت ما تزال حينها في حمص وتقترب من دمشق.
دور إنساني وسياسي
بالإضافة إلى ما سبق، لعبت قاعدة "حميميم" دورًا بارزًا في إيصال المساعدات الإنسانية إلى الأهالي، وخصوصًا عقب الزلزال المدمر في 6 شباط (فبراير) 2023، وضمان الوصول الآمن لقوافل تابعة للأمم المتحدة. كما أشرفت على توزيع أطنان من المساعدات الإنسانية التي شملت أغذية وأدوية ومستلزمات منزلية وصحية، والتي شملت الأكراد والدروز وبعض مناطق المعارضة.
وبموجب اتفاقية "أستانة"، سعت روسيا عبر قاعدة "حميميم" إلى تطوير نظام وقف الأعمال القتالية للإشراف على عملية سياسية بالتنسيق مع تركيا والفاعلين الدوليين، يتم من خلالها إقامة حوار بين النظام والمعارضة يفضي إلى إطلاق عملية إصلاح هيكلي للدولة تشترك فيها المعارضة من داخل المؤسسات. بيد أن سلبية بشار الأسد وحاشيته حالت دون ذلك، رغم كل الضغوط التي مارستها موسكو خلال سنوات.
وبعدما أطلقت "إدارة العمليات العسكرية" عملية إسقاط نظام الأسد بدءًا من مدينة حلب، عاصمة سوريا الاقتصادية، لعبت قاعدة "حميميم" دورًا بارزًا في إجلاء آلاف المقاتلين المنضوين ضمن الميليشيات الإيرانية، بموجب ما جرى الاتفاق عليه في اجتماع "أستانة" الموسع الذي عقد في الدوحة، وحضرته عدد من الدول العربية الفاعلة وعلى رأسها السعودية، لضمان عملية انتقال السلطة بشكل آمن يجنب سوريا عمليات ثأرية وانتقامية.
وهذا ما كشف عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تصريح له في 19 كانون الأول (ديسمبر) 2024، أي بعد أيام فقط من سقوط نظام الأسد، والذي قال فيه: "أجلينا أكثر من 4000 مقاتل موالٍ لإيران إلى طهران عبر حميميم".
ضامن سياسي واجتماعي
الدور البارز الذي لعبته قاعدة "حميميم" بالتنسيق مع تركيا و"إدارة العمليات العسكرية" ظهر بشكل بارز عقب سقوط نظام الأسد، بعدما تولت قوات تابعة للأخيرة حماية الطرقات المؤدية إليها، في موازاة المحادثات بين قادتها السياسيين وموسكو، للاتفاق على أطر التعاون، ولا سيما أن الحكم السوري الجديد أبدى حرصه على استمرار العلاقات الاستراتيجية الروسية – السورية.
وهذا ما جعل قاعدة "حميميم" الملاذ الآمن والوحيد للمدنيين من أبناء الطائفة العلوية خلال الاشتباكات التي شهدها الساحل السوري، والتي تشكل جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي في سوريا. لذلك لجأ إليها نحو 10 آلاف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، حسب تصريحات المسؤولين الروس المعززة بتقارير منظمات حقوقية وإنسانية. ولم تكتفِ موسكو بفتح أبواب القاعدة أمامهم، بل وفرت لهم مطبخًا ميدانيًا ومركزًا طبيًا وعددًا من الخيام، بالإضافة إلى التنسيق والتواصل مع السلطة في دمشق لبحث سبل تأمين الحماية والعودة الآمنة لهم. وهذا ما ظهر من خلال زيارات مسؤولين مدنيين وعسكريين سوريين إلى القاعدة والحوار المباشر مع اللاجئين إليها.
وبالتالي، فإن قاعدة "حميميم" أضحت تشكل الضامن الأمني والسياسي وحتى الاجتماعي للأقليات ولعموم سكان مدن الساحل السوري والمناطق المحاذية وسط واقع شديد الاضطراب، بما يعزز من دور موسكو في إدارة الأزمات الدولية وفق قاعدة الشراكة والحوار، ولا سيما أنها تشدد في موقفها على دعم استقرار سوريا الذي ينسحب على الشرق الأوسط برمته، ووحدة أراضيها، وترفض المشاريع التقسيمية والكيانات الطائفية والإثنية.