لا تَخفَى على أحدٍ تلكَ الابتسامةُ العابرةُ التي تُرسمُ على شفاهِنا حينَ ننسبُ نجاحًا مُفاجئًا إلى "الحظ"، أو نُلقي باللومِ على "نحسِهِ" حينَ تخونُنا الظروف. إنّه ذاكَ الوهمُ الذي نسجتْهُ البشريّةُ بخيوطِ الخوفِ و الجهلِ، فصارَ رداءً تُخفِي تحتهُ عوراتِ المنطقِ، و ستاراً تُبرّرُ من خلالهِ تقلّباتِ الوجود. الحظُّ، بكلِّ ما يحملُهُ من وهجٍ أسطوريٍّ، ليس إلا كذبةً تاريخيةً طوّعها الإنسانُ ليكونَ لها سيداً تارةً، وعبداً تارةً أخرى.
في عصورِ ما قبلَ التاريخ، وقفَ الإنسانُ الأولُ مذهولًا أمامَ بركانٍ يثورُ، أو مطرٍ يهطل، فلم يجدْ لتفسيرِ هذه الظواهرِ إلا قوىً خفيّةً سمّاها "حظاً" أو "نحساً". لم يكُنِ الحظُّ يوماً جزءاً من حكايةِ الكون، بل كانَ انعكاساً لضعفِ الإنسانِ أمامَ المجهول. الحضاراتُ القديمةُ عبدتْهُ في تمائمٍَ ذهبيةٍ، ورسَمَتْهُ على جدرانِ المعابدِ كإلهٍ يُمنحُ البعضُ نعمةً و يُحرمُها الآخرون. حتى الفلاسفةُ الأوائلُ خاضوا في جدلٍ لم يُسدلْ ستارَهُ: هل الحظُّ قدرٌ محتومٌ، أم هو ثمرةُ فعلٍ إنسانيٍّ؟!
لم تكُنِ الإجابةُ مُتاحةً لهم، فصارَ الحظُّ لغزًا فلسفيًّا يُزيّنُ حواراتِ المنتدياتِ، بينما ظلَّ الإنسانُ العاديُ يُعلّقُ حولَ عنقِهِ خرزةً زرقاءَ، و كفّاً فضيةً، لعلَّها تدفعُ عنه "نحسَ" القدرِ.
معَ بزوغ فجرِ العقلِ في عصورِ التنويرِ، بدأَ الإنسانُ ينتزعُ رداءَ القداسةِ عن الحظِّ. لم يعدِ البرقُ غضبَ الآلهةِ، و لا الموتُ المفاجئُ لعنةً سوداءَ. اكتشفتِ البشريّةُ قوانينَ الطبيعةِ، و باتَ الكونُ مُجرّةً من المعادلاتِ الصارمةِ. هنا، تراجعتْ أسطورةُ الحظِّ إلى الظلِّ، لكنّها لم تمتْ. لاحظَ بعضُ المُفكرينَ أنَّ البشرَ ما زالوا يُفضّلونَ الاعتقادَ بأنَّ "الحظَّ" يمنحُ الثروةَ، لا الجهدُ، لأنَّ الأخيرَ يفرضُ عليهم مسؤوليةَ الفشلِ.
لكنّ الثورةَ الحقيقيةَ حدثتْ حينَ حوّلَ الإنسانُ الحظَّ من عدوٍّ مجهولٍ إلى خصمٍ يمكنُ ترويضُهُ.
قيلَ يومًا: "البعضُ يخلقُ حظَّهُ بسيوفِ الإرادةِ"، بينما رأى آخرونَ أنَّ "الحظَّ هو ظلُّ العملِ الدؤوبِ". هنا، لم يعدِ الحظُّ قوةً خفيَّةً، بل صارَ ذريعةً يُخفى وراءَها كسلُ المُهملينَ، أو يُبرّرُ بها المُجتهدونَ انتصاراتِهم التي لم يفهمها الآخرون.
لو حلّلنا "الحظَّ" بمنطقِ الرياضياتِ، لوجدناهُ مجرّدَ احتمالاتٍ. فالفوزُ في اليانصيبِ مثلًا ليسَ معجزةً، بل نتيجةً لحسابٍ إحصائيٍّ بسيط. لكنّ الإنسانَ، بفطرتِهِ، يبحثُ عن القصصِ لا الأرقامِ. نحنُ نُحبُّ أن نسمعَ عن فقيرٍ وجدَ كنزًا، أو عن طفلٍ نجا من كارثةٍ بمعجزةٍ، لأنَّ هذهِ الحكاياتِ تُعطينا أملًا بأنَّ الكونَ قد يُكافئُنا دونَ جهدٍ. لكنّ الحقيقةَ المُرةَ هي أنَّ "الحظَّ" اللامنطقيَّ نادرٌ كالذهبِ، بينما "الحظُّ" المنطقيُّ -أيَ الاستعدادُ لالتقاطِ الفرصِ- هو القاعدةُ.
في السياقِ الدينيِّ، وردَ مصطلحُ "الحظِّ" في القرآنِ الكريمِ مرةً واحدةً، في قوله تعالى: **وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ**، في إشارةٍ إلى نعيمِ الجنةِ الذي لا يناله إلا من حازَ فضلَ اللهِ و عمِلَ صالحاً. هنا يختلفُ المفهومُ جذريّاً عن الوهمِ الدنيويِّ؛ فـ"الحظُّ العظيمُ" مرتبطٌ بالثوابِ الأخرويِّ، لا بالصُّدفِ العابرةِ. إنّه تاجٌ يُوضعُ على رؤوسِ الذينَ صهرتهمْ عِباداتهم و طاعاتهم في بوتقةِ الإيمانِ، لا منْ ينتظرونَ هبةً من مجهول.
إذا كانَ الحظُّ وهماً، فلماذا نحتفظُ به؟ الجوابُ بسيطٌ: لأنّهُ يُريحُ ضمائرَنا. حينَ نفشلُ، نلومُ "النحسَ" لنُجنّبَ أنفسَنا مواجهةَ أخطائِنا ، وحينَ ننجحُ دونَ جهدٍ، ننسبُ الأمرَ إلى "الحظِّ" كي لا نتحمّلَ مسؤوليةَ الحفاظِ على النجاحِ. الحظُّ، بهذا المعنى، أشبهُ بمسكّنٍ نفسيٍّ نتعاطاهُ لننسى آلامَ الواقعِ.
لكنّ الخطرَ الكامنَ في هذهِ الكذبةِ هو أنها تُعطّلُ إرادةَ التغييرِ ، فالشخصُ الذي يعتقدُ أنَّ الفقرَ هو "نحسٌ" وراثيٌّ، لن يُحاربَ من أجلِ تحسينِ وضعِهِ. و المجتمعُ الذي يؤمنُ بأنّ الثروةَ هي "هبةُ حظٍ"، سيتقبّلُ الطبقيةَ كقدرٍ محتومٍ ، و هكذا يصيرُ الحظُّ أفيونَ الشعوبِ الجديدَ.
التاريخُ يُعلّمنا أنَّ الأممَ التي صنعتْ مجدَها لم تنتظرْ حظاً عابراً، بل نحتَتْهُ بالإرادةِ. "الحظُّ" الوحيدُ الذي نعترفُ بهِ اليومَ هو أنْ تولدَ بفرصةِ الاختيارِ ، فأنتَ قد لا تختارُ مكانَ ولادتِكَ، لكنّكَ تختارُ كيفَ تُحاربُ من أجلِ أحلامِكَ. قد لا تتحكّمُ في رياحِ القدرِ، لكنّكَ تستطيعُ أن توجّهَ شراعَ سفينةِ حياتِكَ.
الفارقُ بينَ "المحظوظينَ" و"البائسينَ" ليسَ في النجومِ، بل في الشجاعةِ التي يُطلِقُ بها الأولونَ أشرعتَهم نحوَ المجهولِ، بينما ينتظرُ الآخرونَ مركَبَ الحظِّ الغائبِ. إنّها معركةٌ بينَ مَنْ يكتبُ تاريخَهُ بمدادِ العزمِ، ومَنْ يقرأ تاريخَ غيرِهِ على صفحةِ اليأسِ.
الحظُّ مرآةٌ كُسرتْ منذُ زمنٍ، لكنّنا ما زلنا نحدّقُ في شظاياها لنرى انعكاساتِ أمنياتِنا. هو كذبةٌ جميلةٌ، كتلكَ التي نرويها للأطفالِ لئلا يُصابوا بصدمةِ الحقائقِ. لكنّ النضجَ يقتضي أنْ نرمي الشظايا، و نعترفَ بأنّنا -لا النجومَ- من نكتبُ سطورَ مصيرِنا.
ليستِ الحياةُ رهاناً على يانصيبٍ كونيٍّ، بل هي بذرةٌ نزرعُها، ثمّ نسقيها بالصبرِ حتى تُزهِرُ، بغضِّ النظرِ عن هطولِ المطرِ. وأسمى "حظٍّ" ننشُدُهُ هو ذلكَ الذي وعدَ بهِ القرآنُ: جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ، تُمنحُ لمنْ آمنَ و عملَ، لا لمنْ انتظرَ و ادّعى.