: آخر تحديث

صنعاء… حين تثور الأرض من أطرافها

1
1
1

في سياق حرب تحرير العاصمة اليمنية المتواصلة منذ تسع سنوات، بات من الواضح أن أيَّ تغيير جوهري في معادلة الصراع، لا سيما في صنعاء، لن يحدث عبر الممرات الدبلوماسية وحدها، بل من خلال تحولات ميدانية تتشابك فيها الجغرافيا مع التاريخ، والقبيلة مع الدولة. وإذا كانت العاصمة اليوم تحت سيطرة الإنقلاب الحوثي ، فإنَّ الممر الحقيقي لتحريك المشهد لا يمر بالضرورة من أبوابها، بل من أطرافها. وتحديداً من الاتجاهات التي تحتضن قبائل مأرب، الجوف، البيضاء، وطوق صنعاء، حيث يتكثف الضغط التاريخي والاجتماعي والجغرافي في آنٍ واحد.

تُعد محافظة مأرب اليوم واحدة من أكثر المناطق استقراراً على مستوى مؤسسات الدولة، وهي تمثل مركزاً حيوياً للشرعية، ومنطقة ذات ثقل قبلي وعسكري. تنقسم القبائل في مأرب إلى عدة تكتلات كبرى، أهمها عبيدة، مراد، جهم، الأشراف، وبني عبد وقبائل أخرى.

قبيلة مراد تُعتبر من أقوى القبائل اليمنية ، وتمتد من جنوب المدينة حتى حدود البيضاء. كان لها دور تاريخي بارز في مواجهة الحكم الإمامي، ولعل شخصية الشيخ علي بن حسن القردعي، قاتل يحيى حميد الدين عام 1948، لا تزال رمزاً في ذاكرتها الجمعية.

إقرأ أيضاً: 13 لغماً تحت أقدام عبد الملك الحوثي

أما عبيدة، فهي تحتل الجناح الشرقي وتتمركز في مناطق صافر، وادي عبيدة، والطلعة الحمراء. وتُعرف بقدرتها على الحشد السريع وتحالفاتها القبلية الممتدة على طول البلاد وعرضها ، حيث لعبت أدواراً مركزية في دعم جبهات الدفاع عن مأرب بين 2015 و2021. من أبرز مشايخها شخصيات معروفة بمواقفها الوطنية العامة، دون الخوض في تفاصيل الاصطفافات السياسية. قبيلة جهم في المقابل، وهي قبيلة جبلية تمتد في الغرب، وذات نفوذ في مناطق مثل الزور والبلق، شكلت رأس حربة في مواجهات صرواح المتكررة، ولديها إرث مقاوم حافظ على زخم المعركة لسنوات.

الجوف، التي تقع إلى الشمال الشرقي من صنعاء، تشكّل البوابة الطبيعية نحو عمق العاصمة من جهة الشمال. قبائلها تنتمي في الغالب إلى بكيل، ومن أهمها دهم، بني نوف، الشولان، السرحان، والمهاشمة.

دهم وهي القبيلة الأكبر في الجوف، تنتشر في مديريات مثل الحزم ، اليتمة، الخلق، المراشي، والريان. وقد خاضت مواجهات شرسة في مناطق مثل الغيل والحزم والخب والشعف. من أبرز رموزها شيوخ كانوا على رأس الحراك القبلي، سواء في الإدارة أو المقاومة الشعبية، وكان لبعضهم دور محوري في تأمين الحزم عام 2015، قبل أن تشهد المحافظة تبدلات ميدانية متعددة.

اللافت أن الجوف، رغم خسارتها لبعض المدن، لا تزال تمتلك قدرة كامنة على قلب المعادلات، بالنظر إلى حجم القبيلة وطبيعتها الصحراوية المفتوحة، مما يجعلها عصيّة على السيطرة طويلة الأمد. تاريخياً ، يُعرف عن دهم قدرتها على خوض صراعات ممتدة، فهي قبيلة ذات تركيب عسكري تقليدي، وترتبط بشبكات قبلية عابرة للحدود.

إقرأ أيضاً: وداعاً لخامنئي… وسقوط الولاية الفردية في خريف 2026

أما محافظة البيضاء، الواقعة جنوب شرق صنعاء، فهي تمثل خاصرة استراتيجية، تربط الشمال بالجنوب، وتمتاز بتضاريس جبلية معقدة تمنحها ثقلاً دفاعياً طبيعياً وتنقسم قبائل البيضاء إلى عدة كتل كبرى، أبرزها آل حميقان (في الزاهر)، قيفة (في رداع)، آل مظفر، آل غنيم، آل عمر، ريام، ردمان، والسوادي. قيفة، مثلاً، تُعد من أكثر القبائل احتكاكاً بمسارات التوسع الحوثي منذ 2014، ودخلت في مواجهات متكررة في قانية والملاجم ورداع. كما أن قبائل ردمان كانت في قلب انتفاضة بارزة عام 2020، أربكت المشهد الأمني في وسط البلاد، قبل أن تُطوق.

قبائل آل حميقان خاضت معارك كرّ وفرّ في مناطق الزاهر والصومعة، في مقاومة اتسمت بطابع محلي لكنه ترك أثراً سياسياً وإعلامياً عميقاً ، كما أن هناك شبكة معقدة من التحالفات القبلية بين البيضاء ومأرب، وامتدادات اجتماعية واقتصادية تجعل تحركات البيضاء مؤثرة في أي عملية تغيير قادمة في صنعاء.

الجزء الأكثر حساسية في الخارطة هو طوق صنعاء، الذي يضم نهم، أرحب، بني حشيش، بني مطر، همدان، سنحان، خولان الطيال، وبلاد الروس. هذه المناطق ليست فقط البوابة الجغرافية لصنعاء، بل البوابة النفسية، باعتبارها تمثل الامتداد المباشر للقبيلة الصنعانية التقليدية.

في نهم، توجد قبائل آل حاتم وبني بارق، العطيفي، الحطبة، والمفالحة، وكلها ذات خبرة قتالية ميدانية بعد سنوات من الاشتباك مع الحوثيين. منطقة المنارة وجبل يام من أبرز رموز المواجهة هناك. في أرحب، القبيلة الأقرب للمدينة، توجد فروع مثل بني أوس وبني زياد، وتمثل نقطة ارتكاز مهمة على الطريق المؤدي إلى مطار صنعاء الدولي.

بني حشيش، رغم أنها تحت سيطرة الحوثيين منذ وقت مبكر، إلا أن فيها امتدادات عشائرية تعاني من التهميش، مما يجعلها منطقة قابلة للتحول عند توفر معطيات سياسية مختلفة. همدان، رغم التنوع داخلها، لها ثقل سكاني وامتداد اقتصادي، وتضم أسراً تاريخية مثل بيت شملان وبيت جمعان، ولها تاريخ متذبذب بين التحالفات والحياد الحذر.

إقرأ أيضاً: خمس بوابات لتحرير صنعاء وكسر يد الانقلاب الحوثي

سنحان وبلاد الروس، ورغم انحدار بعض القيادات منها نحو مراكز القرار الحوثي، إلا أن المزاج القبلي فيها لا يزال غير مندمج كلياً مع مركز صنع القرار في صعدة، ويحتفظ بمسافة، قد تتسع مع تغيّر موازين القوى. خولان الطيال، على مشارف الجنوب الشرقي للعاصمة، ذات تركيبة قتالية وارتباطات قوية بمأرب، وتاريخ من الخصومة القديمة مع محاولات التسلط السياسي. وقد شهدت هذه المنطقة تحركات مبكرة خلال 2011، مما يجعلها منطقة مهيأة للانفجار السياسي عند توفر الدافع.

ما يُستشف من كل هذه التفاصيل أن صنعاء – رغم إحكام السيطرة الظاهري – لا تقف على أرض صلبة. أطرافها الأربعة، من مأرب إلى الجوف إلى البيضاء إلى طوقها الجغرافي، تحوي قوى كامنة ضخمة، قادرة على الدفع نحو تغيير جذري إن توافرت اللحظة السياسية المناسبة. هذه القوى ليست وحدات نظامية، ولا ميليشيات، بل هي تركيبات اجتماعية عريقة، تمتلك الأرض، والرجال، والذاكرة، وهي العناصر التي يصعب تجاوزها في أي مشروع حسم أو استعادة.

ولذلك، فإن أي عملية تفكير في المستقبل السياسي أو الأمني للعاصمة، يجب ألا تنطلق فقط من المركز ، بل من قراءة دقيقة لهذا الطوق الناري المتوتر.

لا من أجل إشعال المواجهة، بل لتفكيكها أيضاً فالقبيلة حين تتحرك، لا تطلب الإذن، وحين تصمت، لا يعني أنها خضعت. وإنما تنتظر اللحظة التي تعتقد فيها أن المعادلة باتت تستحق.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.