حين دخلت الأمم المتحدة إلى اليمن، كانت البلاد على وشك الانهيار الكامل. لم تكن تداعيات الانقلاب قد بلغت أقصى جنونها بعد، ولم تكن المدن قد تهاوت بهذا الشكل المروّع. كان الناس، رغم الخوف، يؤمنون أن المجتمع الدولي سيمنع الأسوأ، وأن الأمم المتحدة ستحمل مفاتيح الإنقاذ. لكن ما حدث لاحقاً لم يكن سوى خيبة تلو خيبة، وخطأ تلو خطأ، وفساداً تلو فساد، حتى بات اليمنيون يقولون في مجالسهم: عدونا واضح، لكن خنجر الأمم المتحدة في ظهورنا غادر!
منذ أوَّل مهمة أُرسلت إلى اليمن، بدت الأمم المتحدة وكأنها تنظر إلى الصراع من برج شاهق الارتفاع، بلا فهم حقيقي للتاريخ اليمني أو تعقيداته القبلية والسياسية. أدارت المنظمة ملفها في اليمن عبر مكاتب مترهلة وموظفين دوليين يتنقلون بين جنيف وصنعاء وعدن، يتحدثون بلغة "الحياد" بينما الموت يتجول في الشوارع، والجوع ينهش أطفال تهامة، والألغام تفتك بفلذات الأكباد في صعدة والحديدة والجوف. الحياد، في الحالة اليمنية، لم يكن إلا خيانة مغطاة بشعارات دبلوماسية.
ارتكبت الأمم المتحدة في اليمن أخطاء كارثية، بعضها في العلن، وبعضها في الكواليس، وأكثرها ظل مخفياً حتى كشفت عنه تقارير وتسريبات واعترافات أممية لاحقة. أول تلك الأخطاء كان في تبييض الجرائم، حين تم تجاهل استخدام الحوثيين للمدارس والمستشفيات كمخازن أسلحة، وتم التعامل معهم كـ"طرف سياسي مشروع" رغم سجلهم الواضح في استهداف المدنيين وتجنيد الأطفال وزراعة الألغام. بل إن مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة وقع اتفاقيات مع وزارات تابعة للحوثيين لتوزيع المساعدات، مما أتاح للجماعة سرقة المساعدات وتحويلها إلى المقاتلين أو بيعها في السوق السوداء.
إقرأ أيضاً: سبتة ومليلية… احتلال التاريخ
في عام 2017، كشفت تقارير دولية أن ما يقارب 40 بالمئة من المساعدات الغذائية التابعة للأمم المتحدة لم تصل إلى مستحقيها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين. تم بيع الطحين والسكر والأرز في الأسواق، وأحياناً بأسعار مضاعفة، بينما كانت نساء الحديدة يبحثن عن الطعام في القمامة. ورغم علم الأمم المتحدة بذلك، لم تتخذ إجراءات حاسمة، بل استمرت في التعامل مع الجهات ذاتها، تحت ذريعة "ضمان استمرار العمل الإنساني". هذه ليست بيروقراطية عادية، بل تواطؤ.
ولم يقتصر الفساد على سرقة الطعام. ففي تقرير صادم صدر عام 2019 عن "أسوشيتد برس"، تم الكشف عن أن موظفين تابعين للأمم المتحدة في اليمن – بعضهم من جنسيات أجنبية – كانوا يتواطؤون مع المليشيات الحوثية، ويتقاضون رشاوى مقابل تسهيلات لوجستية، ويغضّون الطرف عن الانتهاكات. بل إن بعضهم كان يقيم في فنادق فخمة داخل صنعاء بتمويل من أموال المساعدات، بينما يموت اليمني جوعاً ومرضاً.
منظمة الصحة العالمية، واحدة من أبرز أذرع الأمم المتحدة، وُجّهت لها اتهامات علنية بإهدار ملايين الدولارات في اليمن. تقارير رقابية داخلية أشارت إلى أن المنظمة دفعت أموالاً لموظفين لا يعملون، وسددت فواتير غير مبررة، واستخدمت سيارات فارهة للرحلات الشخصية. كان من الممكن بناء عشرات المستشفيات بهذه الأموال أو إنقاذ آلاف الأطفال من الموت بالكوليرا وسوء التغذية، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.
إقرأ أيضاً: جزيرة سامناو: حيث تبدأ الحياة من جديد
الأمم المتحدة أيضاً أضاعت فرصاً حقيقية للسلام. حين كانت الشرعية تحرز تقدماً على الأرض، كانت مبادرات السلام تُطلق فجأة، تُجمّد الجبهات، ويُمنح الحوثيون فرصة لإعادة التموضع والتسلّح. حدث ذلك أكثر من مرة، حتى بدأت الأطراف اليمنية تتحدث علناً عن أن بعض مبعوثي الأمم المتحدة يساوون بين الضحية والجلاد، بل ويميلون ضمنياً إلى الحفاظ على الوضع القائم لضمان استمرار دورهم ومهامهم في المنطقة.
ولعل أشد هذه الإخفاقات وضوحاً ما حدث في اتفاق ستوكهولم 2018، حيث وافق الحوثيون على انسحاب شكلي من موانئ الحديدة، لكنهم بقوا فعلياً في المدينة، وسيطروا على مفاصلها الأمنية والإدارية، وسط صمت البعثة الأممية التي اكتفت بـ"الرصد والتوثيق". لم يتم الضغط لتنفيذ بنود الاتفاق، ولم تُحمَ المناطق المدنية، بل أصبح الاتفاق نفسه غطاءً لتهدئة مؤقتة سمحت للحوثيين بتحصين مواقعهم وإعادة توزيع قواتهم.
المأساة الكبرى أن الأمم المتحدة، بما يفترض أنه حياد، ساهمت في تمييع الحقائق. فبدل أن تسمي الأشياء بمسمياتها، صارت تستخدم تعابير مثل "الأطراف المتنازعة" أو "الجهات الفاعلة"، رافضة الإشارة إلى الحوثيين كمليشيا مسلحة انقلبت على سلطة شرعية، وانتهكت كل الأعراف والقوانين الدولية. هذا الحياد المصطنع لم يمنع الحرب، بل شرعنها، وجعل من المجرم شريكاً في الحل.
إقرأ أيضاً: 13 لغماً تحت أقدام عبد الملك الحوثي
حتى على مستوى التقارير الإنسانية، كانت هناك تلاعبات. بعض التقارير كانت تصاغ بطريقة تجميلية، لتخفيف الانتقادات الدولية، وبعضها الآخر تم تأجيل نشره بسبب ضغوط سياسية أو تفاهمات مع أطراف متنفذة. الأمم المتحدة كانت تعلم أن صمتها يطيل الحرب، لكنها فضّلت ألا تخسر موقعها كوسيط، حتى لو كان ذلك على حساب آلاف الأرواح.
في الداخل اليمني، فقد المواطن البسيط ثقته الكاملة بالمنظمة الأممية. هناك شعور عارم بالخيانة، بأن العالم يتحدث عن السلام من فنادق خمسة نجوم، بينما هم يموتون تحت الأنقاض. وهناك قناعة راسخة بأن جزءاً كبيراً من مآسيهم لم يكن فقط نتيجة الحرب، بل نتيجة سوء إدارة الأمم المتحدة للملف، وتغاضيها المتكرر عن الانتهاكات، وسكوتها المريب عن فساد شركائها المحليين.
في الوقت الذي تتحدث فيه الأمم المتحدة عن الحياد والمساعدات، يواصل الحوثيون زرع الألغام، قصف الأحياء السكنية، تجنيد الأطفال، ومنع دخول المساعدات إلى المناطق غير الخاضعة لهم. كل ذلك يحدث تحت أعين البعثة الأممية، التي ما زالت تقيم في صنعاء، وتصدر بيانات باهتة لا تسمن ولا تغني من جوع.
إن ما حدث – وما زال يحدث – في اليمن ليس مجرد فشل أممي في حل أزمة، بل هو تواطؤٌ صامت مكّن المليشيات من التمدد، وعمّق الجراح، وأطال عمر المأساة. لا يمكن لليمن أن يُشفى ما دامت الأمم المتحدة تتعامل مع الجلاد كأنه ضحية، ومع المأساة كأنها مجرد ملف بيروقراطي في أرشيف العلاقات الدولية.
الحياد في زمن الجريمة جريمة. وفي اليمن، ارتكبت الأمم المتحدة جريمتها على مدار سنوات… باسم الحياد!