: آخر تحديث

كيف تبيع تراثك «بالحلال»...!

2
2
2

محمد ناصر العطوان

هل جرّبت يوماً شعور الجالس على صندوق من الذهب، وهو يصرخ شاكياً الفقر ويبحث عن «خردة» في جيوب المارة؟

نحن نمتلك كنوزاً مدفونة في «سكيك» الذاكرة، ومتجاهلين أن «نفط» القرن الحادي والعشرين هو الحكاية، والهوية، والمعنى.

أخيراً، وجدت نفسي متلبّساً بجريمة «الأمل» مع صديقي المبادر وائل بن علي «بوعبدالله»... الرجل الذي قرّر ألا يلعن الظلام، ولا يكتفي بإشعال شمعة، بل قرّر أن يضيء «سكة» كاملة.

أخذني وائل من يدي، أو بالأحرى من عقلي، لنخوض معاً تجربة مشروع «سِكِيك»، وهو محاولة جريئة لتحويل تراب الماضي إلى ذهب الحاضر، عبر ما يُسمى بـ «الإرشاد الثقافي».

ولمَنْ لا يعرف الفرق، فالفرق بين «الدليل السياحي» التقليدي وبين «المرشد الثقافي» كالفرق بين مَنْ يقرأ لك نشرة الأخبار ومَنْ يحكي لك «قصة» قبل النوم.

الدليل التقليدي سيقف بك أمام المتحف، ويقول بجمود: «بُني عام كذا بمساحة كذا». أما المرشد الثقافي في مشروع «سكيك»، فهو يُمارس ما يُسميه الفيلسوف فريمان تيلدن بـ«الاستفزاز» لا «التعليم». هو يستفز فضولك، يربط الحجر بالبشر، ويجعل الجدار الصامت ينطق بشعر البناي أو نوخذة البحر. هو لا يعطيك معلومة جافة تموت بمجرد مغادرتك المكان، بل يمنحك «معنى» يلتصق بجلدك وروحك.

في جولتنا التجريبية بأسواق المباركية، لم نكن نمشي فقط، بل كنا نمارس شعار المشروع حرفياً: «نمشي على خطى القصص». رأيت بعيني كيف يتحوّل «مجمع السيل» أو «القيصرية» من مجرد دكاكين للبيع والشراء إلى مسرح حيّ للذاكرة الوطنية.

شارع الأمير، ومسجد السوق، والبريد والمدرسة المباركية ومكتبة الرويح... كلها مواقع متحف حي تفاعلي عشنا فيه وتعلمنا منه ما هي «الهوية».

المشكلة يا سادة، أننا حين نطرح هذه الأفكار على بعض «الجهابذة»، ينظرون إلينا نظرة مَنْ يراعي «مجاذيب» يتحدثون عن الخرافات. يسألونك بلغة الأرقام: «وكم سيدر علينا هذا الهري التاريخي؟».

وهنا نرد عليهم بلغة «اليونسكو» والأرقام التي يحبونها: العالم يا سادة اكتشف أن الاستثمار في «الإرشاد الثقافي» يرفع الدخل السياحي بنسبة 300 % !. نعم، الناس تدفع العملة الصعبة لا لتشاهد ناطحات سحاب زجاجية موجودة في كل مكان، بل لتشم رائحة التاريخ، ولتسمع قصة لا توجد إلّا هنا.

مشروع «سكيك» ليس مجرد «تمشية» في السوق؛ هو تطبيق عملي لنظريات معقدة قرأناها في المراجع الأجنبية عن «النزاهة» و«المصداقية» في سرد التاريخ. هو محاولة للإجابة عن سؤال الهوية: من نحن؟ وكيف عشنا؟ وكيف تلاحمنا؟... هو تحويل التراث من مادة صامتة في المتاحف المغلقة، إلى كائن حي يمشي بيننا في الشوارع، يأكل «الهريس» ويحكي عن الغوص، ويجلس في قهوة بوناشي ليروي للأجيال الجديدة وللدبلوماسيين وللسياح أن هذه الأرض لم تكن مجرد بئر نفط، بل كانت ولاتزال منارة حياة.

المفارقة المضحكة المبكية، أن شبابنا الكويتي متعطش لهذه المعاني. تشير الإحصائيات إلى أن 70 % منهم مهتمون بالتراث لكنهم تائهون، لا يجدون «السكة» التي توصلهم إليه. وهنا يأتي دور «سكيك» ليكون هو الوسيط الذي يترجم لغة الأجداد لجيل الآيباد، بأسلوب عصري، وأدوات تفاعلية، وباركود، وكل ما يلزم لإقناع الجيل الجديد بأن «جدهم» كان «كول» أكثر مما يتصورون.

خلاصة القول، هذه دعوة للقطاع الخاص من أجل الاستثمار في التراث، فلماذا لا نبيع تراثنا نحن أيضاً؟ وبيع التراث هنا ليس خيانة لا سمح الله، بل هو «تجارة شطارة» وبالحلال. أن تبيع للعالم قصة كفاحك، وقيم مجتمعك، وتسامح أهلك، وتنوّع ثقافتك.

شكراً لصديقي وائل بن علي، الذي آمن بأن «السكة» يمكن أن تكون طريقاً سريعاً نحو المستقبل. وشكراً للمهندس صلاح الفاضل، على دعم المحتوى من خلال مركز البحوث والدراسات، وأنوار الستلان، التي حلمت بهذا المشروع يوماً ما وهي تمشي في السوق، ومها العجمي وفريقها التطوعي «أثر الثقافي»، الذي شكّل البذرة، والشكر الجزيل للدكتورة عبير الرميح، على جهودها مع المتطوعين وتدريبهم، وللأستاذة سارة كميخ، على حرصها الدائم على المصداقية والنزاهة، ولكل مَنْ ساهم في جعل «سكيك» واقعاً نراه، لا حبراً على ورق الدراسات... شكراً لفريق المرشدين الثقافيين الشباب الوطني الذي تطوع لإنارة «السكيك».

أما أنتم، فدعوتي لكم بسيطة: تعالوا لتمشوا معنا، ليس لتروا الحجارة، بل لتسمعوا الحكاية... لأن القصص هي الوقود الوحيد الذي لا ينفد أبداً... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد