عقب إيقاف الحرب في غزة والنقاط العشرين لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وجد البيت الأبيض ضالته في فلسفة وقف الحروب بمزيد من الخطط.
عاد ترمب وقدم خطة جديدة، لإيقاف الحرب الروسية - الأوكرانية التي استمرت ما يقرب من أربعة أعوام، وأصابت العالم بشلل سياسي واقتصادي، وبين لحظة أو أخرى كادت تقع حرب عالمية ثالثة، ولو عرضاً، نتيجة لخطأ من هذا الطرف أو ذاك، فكل الأيادي على الزناد.
لا أريد هنا العودة إلى أسباب انفجار الإخوة السلاف، ولا الميراث الطويل من العداء، ولا استدعاء قصة هابيل وقابيل، لكنني أفضل أن أقفز إلى المستقبل، من خلال الفلسفة الناجعة لدونالد ترمب. ففي الخطتين (غزة وأوكرانيا)، كان هناك فريق يثق فيه ترمب، يتكون من صهره جاريد كوشنر، ومبعوثه للسلام ستيف ويتكوف، ويضاف إليهما مارك روبيو، وزير خارجيته، فضلاً عن العسكريين الموثوق فيهم، ورجال المخابرات والمتخصصين من الدوائر المحيطة به.
كل هؤلاء صاغوا النقاط الثماني والعشرين الجديدة، ووافق عليها الرئيس الأميركي فوراً، لأنها تناسب ما يفكر فيه.
في ذهني يدور ما قاله نائب الرئيس جي دي فانس، عندما سئل عن سياسة رئيسه، فقد قال إنها نابعة من مفهوم صفقات التجارة؛ أي أنها تعتمد على مفهوم البيع والشراء، يصبح الكل فيها كاسباً، وهذا منطلق جديد لمفاهيم السياسة العالمية، لم يسبق لرئيس أميركي أو غير أميركي أن اتخذ من هذا المفهوم مساراً، وجسراً لإدارة العلاقات الدولية، تحديداً منذ نهاية الحرب العظمى.
كان الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان، قد استخدم السلاح النووي في اليابان عام 1945 بعد النهاية الفعلية للحرب العالمية الثانية، وكان هذا نوعاً من السياسة بالقوة التي أفضت إلى استسلام اليابان، ورغم الغضب العالمي الذي لا يزال يتجدد في أغسطس (آب) من كل عام، فإن قرار ترومان وضع نهاية لحرب عظمى، وكان أول استخدام أميركي لسلام القوة. ونتذكر هنا أيضاً الرئيس الأميركي الأسبق الآخر جيمي كارتر، فقد اتخذ في نهاية السبعينات، من سياسة حروب العصابات في أفغانستان، نهجاً لطرد الاتحاد السوفياتي من أراضي الأفغان، وهزيمته هدفاً استراتيجياً، من دون الدخول في مواجهة مباشرة بين قوتين نوويتين، أي أنه استخدم مفهوم حرب الوكالة.
ونأتي إلى الرئيس الأشهر رونالد ريغان الممثل السينمائي، ونقيب السينمائيين الذي كان له دور في شبابه في مطاردة اليسار، فيما عرف لسنوات بـ«المكارثية» الرهيبة، ذلك الرئيس الذي اتخذ من الدعاية نهجاً لهزيمة الأعداء من دون الوقوع في حرب مباشرة، عندما أطلق ما يسمى «حرب الكواكب»، فدفع الاتحاد السوفياتي إلى تقليد تلك الحرب الزائفة، فكرس السوفيات كل مواردهم للحاق بما ادعاه الرئيس ريغان، فسقط المجتمع في هوة أزمة اقتصادية هائلة، فالموارد ذهبت إلى السلاح، وليس إلى التنمية، وكانت النهاية أن تهاوى الاتحاد السوفياتي على أيدي الرئيس جورج بوش الأب، نائب ريغان الذي خلفه في مقعد الحكم، والذي أعلن عن سقوط السوفيات ونهاية الحرب الباردة، واعتبر نفسه القطب الأوحد عالمياً، وفي سبيل هذا كتب المفكر الأميركي - الياباني فرانسيس فوكوياما كتابه الأشهر «نهاية التاريخ».
لكن التاريخ ماكر ولا نهاية له، فقد ظهر على السطح قرين آخر يمتلك بمهارة أدوات ترويض التاريخ، كان يا للمفارقة يدعى الصين التي أسهمت الولايات المتحدة عبر ثنائية نيكسون - كسينجر في إيجادها قوةً عظمى، وكان ذلك من أجل ترويض الاتحاد السوفياتي، وحصاره، وعزله عن القوى الأخرى، ويسقط بالفعل الاتحاد السوفياتي، لترثه روسيا الاتحادية، ومن بعيد تعود بعد عقد عانت فيه من التحلل حتى جاء رجل الـ«كي. جي. بي»، ليوقظ الدب الروسي من سباته الطويل، ويبتسم الكرملين في وجه التاريخ من جديد.
لم يتوقف التاريخ عن مكره، فقدم لنا طبعة جديدة من رئيس يختلف في كل شيء اسمه دونالد ترمب، لا يفكر، مثل أسلافه، في مفاهيم الحرب المباشرة؛ كقصف اليابان أو الحرب بالوكالة مثل أفغانستان، ولا يفكر في الحروب المستندة إلى الخيال، مثلما جرى في «حرب الكواكب».
إنه ترمب الذي صاغ مفهوم إدارة الحروب بالسلام والمبادرات والخطط؛ فهو مولع بتقديم وصفات ناجعة من وجهة نظره، عبر فريق يعرف ما يدور في عقله، ويترجمه في صورة بنود يمكن التفاوض عليها كما يتفاوض البائع والمشتري في السوق، لقد هبط ترمب بالسياسة من عليائها، وتفوق على نظرية الفيلسوف الألماني هيغل، صاحب الفلسفة المثالية، الذي قال ذات يوم إن الفلسفة ستأتي في المستقبل من أميركا، حيث لا فلسفة، ويبدو أن دونالد ترمب، ولديه أصول ألمانية قريبة، ورث جينات هيغل، والعقلية الألمانية التي قادت الحداثة في العالم على مدى قرنين، فخطة ترمب المكونة من 28 بنداً سربها فريقه، وكأنها مسودة، كانوا يختبرون بها رد الفعل في أوكرانيا، وروسيا، وأوروبا، حتى في الصين البعيدة عن مسرح العمليات، فحسبما يتسرب من تحليلات حول الخطة، فإنها تذهب إلى موسكو، بينما وجهتها النهائية هي بكين.
وللحكاية بقية قد تروى الآن في لندن وباريس وبرلين، عواصم أوروبا التي تتحسس رؤوسها كلما صاغ دونالد ترمب خطة جديدة.

