صَرف المؤرخ العراقيّ جواد عليّ (1907-1987) نصف عمره تماماً، ليثبتَ أنَّ العربَ قبل الإسلام ليسوا «جاهليَّةً» بمعنى «الجهل خلو النّفس مِن العِلم» (الزّبيدي، تاج العروس)، ومؤرخنا لم يفصح عن قصدهِ بالعبارة، لكنّ قارئ «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (عشرة مجلدات) سيستشفّها مِن المقدمة، مع العِلم أنَّ ما اصطلح عليه بالجاهليَّة يشمل أمماً وحضارات يُتغنى الآن بها مِن سومر وبابل وسواهما.
أشار الشّريف الجرجاني (ت: 816هج)، وأخذها مِمَن سبقه، إلى: الجهل البسيط: «عدم العِلم عمَّا شأنه أنْ يكون عالماً»، والمركب: «اعتقاد جازم غير مطابق للواقع»، والتّعريف العام عنده: «اعتقاد الشّيء على خلاف ما هو عليه» (التّعريفات).
هذا ما نفاه «مفصل» جواد عليّ، بما أظهره مِن آداب وفنون وصناعات مِن أقدم العصور وحتّى قُبيل ظهور الإسلام، لا ينطبق عليها قول: «خلو النّفس مِن العِلم»، وكان رداً قاطعاً على مَن فسر مصطلح «الجاهليَّة» القرآنيّ بـ«اعتقاد الشَّيء على خلاف ما هو عليه»، فأظهر واقعه، أما المصطلح فيعني شيئاً آخرَ يتعلق بالدّين وليس بالحياة.
فاستبدال كُنية عَمرو بن هاشم المخزوميّ (قُتل: 2هج) أبي جهل بأبي الحكم (البلاذري، جمل مِن أنساب الأشراف)، لا تعني الجهل المقصود ضد العِلم على العموم، وإلا كان أحد دهاة زمانه، بينما نجله عكرمة قُتل محارباً مع المسلمين، وظل اسمه عكرمة بن أبي جهل (ابن سعد، الطّبقات الكبرى)!
ما تقدم كان تمهيداً، وعذراً لمقال أخصصه عن «الجهل»، وتشجعتُ أكثر عندما اطلعتُ على كتاب لبيتر بيرك بعنوان «الجهل تاريخ للظاهرة مِن منظور عالميّ»، نشرته دار «الرّافدين» العراقيَّة، وترجمه السُّعوديّ بدر الحربي. استخدم الجهل مادة للبحث بدلاً مِن المعرفة، مُعرفه: بـ«عالم عدم المعرفة»، المعنى نفسه في الأدب العربي القديم «خلو النّفس مِن العِلم»، مثلما تقدم. لستُ بصدد عرض الكتاب، إنَّما الإشارة إلى تلميحه لِما يجري اليوم، وهو توظيف «الجهل» ظاهرةً مقصودةً.
فما حصل هذا العام، على وجه الخصوص، مِن غرائب الطُّقوس، وبهذا الهبوط، وإشاعتها بمراكز العواصم الأوروبيّة، لا يخلو بمكان مِن القصد، نوعاً مِن الاستعراض السّياسيّ لرد اعتبار لفشل نظريةٍ أو سياسةٍ، ديمومتها مشروطة بالحِفاظ على جهل الجمهور. صحيح أنَّ الصّحوة الدّينيّة، بعمومها، أسست لجهلٍ قامع للتفكير العلميّ، وخصوصاً في التَّربيَّة والتَّعليم، لكنه برز متضخماً في الآونة الأخيرة، بلا استنكار، وكأنّ الحياة طبيعتها مناصفة بين الجهل والعقل، والجهل طاغٍ، حتَّى إنّ شعوباً أخذت تخوى خواءً أخيراً.
نعم كانت الظَّاهرة قديمة، وتناولها شعراء العصور كافة، لكنْ ليست مثلما يجري الآن، فكان عذر شيوع الجهل قديماً عدم شيوع المعرفة، وأبسطها القراءة والكتابة، فما العذر اليوم، والذَّكاء الاصطناعي، وهو آخر ما أبدعه العقل البشريّ، صار مقاسمة بين الجاهلين والعارفين أو العالِمين؟
صحيح ليس في الشّعر العربيّ غرضٌ عنوانه «الجهل»، مثل: الحبِّ والهجاء والرِّثاء، غير أنّ ما قيل يُعدُّ دعوةً صريحةً للمعرفة. بهذا الغرض، يسترعى الانتباه بيتَ الشّريف الرّضي (ت: 406هج): «لما رأيتُ جنودَ الجهلِ غالبةً/ والنَّاسُ في مثل شدقِ الضَّيغمِ الضَّاري»، وما أجاد به أبو العلاء المعريّ (ت: 449هج): «لما رأيتُ الجهلَ في النَّاسِ فاشياً/ تجاهلتُ حتَّى ظُن أني جاهلُ»، وترى المعريّ منافحاً عن العقل، أو محفزاً لمن هو «بحاجة إلى لذة اليقين»: «أراك الجهلُ أنَّك في نعيمٍ/ وأنتَ إذا افتكرتَ بسوءٍ حالٍ»، وكيف يكون الأفوه الأوديّ (قبل الإسلام) جاهلاً وهو القائل: «لا يصلحُ النَّاس فوضى لا سُراةَ لهم/ ولا سُراةَ إذا جُهالهم سادوا/ والبيتُ لا يُبتنى بأعمدةٍ/ ولا عِمادَ إذا لم تُرس أوتادُ» (الشَّيزريّ، المنهج المسلوك).
أعود إلى ما ابتدأتُ به، جواد عليّ ومفصله، فأصحاب الحاكميات والجاهليات، يعدونه مخطئاً، أنه كشف تلاعبهم بالمصطلحات، وهم يرون ثمار ثقافتهم قد أينعت هذا الجهلَ المريع، وقد أرادوها جاهليةً مقصودةً: «خلو النّفس مِن العِلم».