دائمًا أجد ثقلاً عظيماً في الخوض في هذا الجانب والحديث عنه بكل أمانة وصدق، ونقل تجربة حياتية صادقة تنير الكهوف الذهنية لدى المتلقي، وتجعله يرى المستقبل ويتعلم كيف يتصرف التصرف الصحيح في أوقات المحن من خلال تجارب من سبق. دائمًا وأبدًا أقول التعلم من تجارب الآخرين أفضل بكثير من خوض التجربة والتعلم منها، فصفعات الحياة تترك أثرها كالوشم في ذاكرتنا تحفر بدموع العين ونزف القلب.
الزواج ليس مجرد انعكاس لحالة عاطفية، بل هو مؤسسة دينية واجتماعية ترتكز على مبادئ الإسلام السمحة، التي تجسد التوازن بين العقل والعاطفة، بين الواجب والاختيار. يقول الله - عز وجل - في كتابه الكريم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أن خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21).
هذه الآية تُعِدّ لنا المعنى الحقيقي للزواج؛ أنه ليس فقط التقاءً جسدياً، بل هو سكون ومودة ورحمة. نرى أن مشاعر الحب والمودة هي نتيجة لا أداة تُستخدم لإنشاء علاقة، بمعنى أن بناء هذا الارتباط يحتاج إلى سند عقلاني يدعمه إيمان راسخ وليس فقط تبادل المشاعر.
وكلما أدركنا حقيقة الرباط المقدس بين المرأة والرجل وضعنا لها ثقلاً راسخاً في عقلنا اللاواعي والواعي، ورسمنا لهذه المؤسسة مخططاً في منتهى الدقة، شامخاً راسياً في وجه الرياح العاتية بجميع أشكالها، فلا يجوز أن نجعل هذا الأساس المتين ريشة وسط التيار يقذف به حيث شاء ونلحق خلفه بلا وعي ولا إدراك.
مشاعر الغضب والغيرة قد تكون ذات تأثير مدمر إذا تم استخدامها بلا وعي أو فكر. نحن، كبشر، نقع أحيانًا فريسة لأفكار هشة وغريزية، وقد يقودنا الشيطان إلى استغلالها لخدمة الأهواء الشخصية، مما يعصف بالسلام الداخلي ويجعل الحياة لا تطاق.
الغضب، الذي يعكر صفو النفوس، يحتاج إلى توجيه. يقول الله تعالى في كتابه: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134).
هذا توجيه رباني يُنبهنا إلى أن القيم الإسلامية ليست فقط في التزامنا بالعبادات، بل في إدارة مشاعرنا والتحكم فيها.
أما الغيرة، فيجب ألا تكون عبئًا ثقيلًا على أي علاقة، بل هي شعور طبيعي إذا أُدير بشكل معتدل. لكن إذا تحولت إلى شك واتهام دائم، فإنها ستدمر الثقة وتُفسد العلاقة. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تُؤذُوا المرأة في زوجها، ويظل السؤال الذي يفرض نفسه بكل وجع هل من المعقول أن يبنى المجتمع على مشاعر هشة، تتلاعب بها الرياح والأهواء؟ وهل تكون العلاقة الزوجية مرهونة بهواء النفوس وأمزجة البشر؟.
لنعد إلى أصل هذه العلاقة المقدسة، وهي قصة سيدنا آدم عليه السلام. عندما خلق الله سبحانه وتعالى آدم، لم يخلقه ليعيش وحده في الأرض، بل خلق له زوجة تكون سكنًا له، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء) (النساء: 1).
ولكن، هل كانت العلاقة بين آدم وحواء تعتمد على مشاعر مؤقتة؟ بالطبع لا. لقد كانت رباطًا ثابتًا قائمًا على مبدأ التكامل والمودة، حيث خلق الله حواء لتكون سكينة لآدم، ولتشاركه مسؤوليات الحياة على الأرض. فالعلاقة بين آدم وحواء كانت مبنية على الوعي العميق، والالتزام بخطة الله في الأرض، لا على المشاعر التي يمكن أن تتقلب بتقلبات الحياة وعلى جانب أعظم يتمركز في القبول والرضى.
أنا على يقين أن الحل يكمن في العودة إلى أصول العلاقة، التي تبدأ بمرجعية شرعية، تتجاوز التوقعات العاطفية لتصل إلى الالتزام الأخلاقي والديني.
إن العيش على المبادئ والأخلاق الإسلامية هو الكفيل ببناء حياة هادئة ومستقرة، فالأساس في كل شيء هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والالتزام بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية.
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33).
هذه الآية تضع لنا الخطوط العريضة لعلاقة صحية قائمة على التواضع، النية الصافية، والطاعة لله، لا على أهواء النفس.
فعندما تُبنى العلاقة الزوجية على التفاهم المتبادل وسد الحوائج الأساسية، بدلاً من الاعتماد على المشاعر المتقلبة، تكتسب العلاقة استقرارًا أكبر. فالحياة الزوجية تصبح أكثر وضوحًا وكفاءة، حيث يمكن للطرفين التحدث بصراحة عن احتياجاتهم وتوقعاتهم. هذا النوع من التواصل يُسهم في تعزيز التفاهم ويضمن أن العلاقة لا تتأثر بالحساسيات العابرة، بل تظل ثابتة وقوية.
من هنا أقول إن قضية بناء الحياة الزوجية ليست قضية خيال ولا مبنية على مشاعر عابرة. بل هي رحلة طويلة تتطلب منا إيمانًا عميقًا، وجهدًا متواصلاً، وإيمانًا بالقضاء والقدر. الزواج رباطٌ أبدي وليس ارتباطًا عابرًا، ولا تفرضه المشاعر المؤقتة.
علينا أن نحرص على تأسيس قاعدة من الصدق والوفاء والتفاهم، تظل ثابتة مهما تغيرت الرياح. أن نعيش الحياة الزوجية كما أمرنا الله ورسوله، وأن نغرس في قلوبنا روح التعاون والتكامل، لنواجه تقلبات الحياة بمبدأ الواجب والإيمان.
لذلك، يجب أن نُعيد النظر في أسس علاقاتنا، وأن نُبنيها على قواعد صلبة قائمة على الشرع، وأن نحرص على أن تكون مشاعرنا محكومة بالوعي، وأن لا ندع الأوهام تسيطر علينا. لنكن مجتمعًا يعلي من القيم والمبادئ، لنحيا حياة أبديّة مستقرة تُباركها مرضاة الواحد الأحد القائل في محكم آياته (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (269) البقرة: 269)، دمتم بكل الوعي.