: آخر تحديث

سوريا... إعادة الوطن إلى مساره

4
5
6

في ربيع عام 1977، كانَ لبنانُ علَى شفَا حربٍ أهليَّة، إثرَ اغتيالِ الزَّعيمِ الدُّرزيِّ كمال جنبلاط في كمينٍ نُصِبَ له في أثناءَ تَوجُّهِه إلى بلدةِ بعقلين في منطقة الشوف قادماً من بيروت.

اندلع حينَها الاضطرابُ والتوترُ بين الدُّروز والمَوارنة، وكادَ الجبلُ يشتعل بحربٍ لا يستطيعُ أحدٌ أن يتخيَّلَ نهايتَها، قبلَ أن تنكشفَ خيوطُ الجريمةِ لاحقاً، وأنَّ المتهمَ في تلك الجريمةِ لم يكن أسَاساً من لبنانَ، بل كانَ حافظَ الأسد، الرَّئيسَ السُّوري الأسبقَ الذي قرَّر اغتيال جنبلاط، لأنَّه وقفَ في وجهِ مشروع الوصايةِ السورية.

تلكَ الصُّورة، بكلّ ما فيها من رَمزيةٍ للانفجار الطَّائفي، عادتْ اليوم لتُخيّمَ على الجنوب السوري، مع تصاعدِ الأحداثِ في محافظة السويداء، معقل الدروز فيها، فمَا يجري هناك منذ أسابيعَ لا يشبه خلافاً محليّاً، ولا يُقرأ على أنه حراكٌ احتجاجيٌّ تقليدي، بل يَشي بفتنةٍ تتشكَّلُ على مهل، خرجتْ من تحتِ الرَّماد، وتتمدَّد الآنَ تحتَ عناوينَ مختلفة، لأنَّ هناك مَن يودُّ تسعيرَهَا، ليضعَ سوريا على تخومِ الانقسامِ الأهلي.

السويداءُ ليست هامشاً جغرافيّاً، بل ركيزةٌ وطنيةٌ لطالمَا مثّلت ضمانةً بأنَّ صوتَ العقلِ لا يزال ممكناً في قلبِ العواصف، وكانتِ المدينةُ بطبيعتها الاجتماعيةِ والتاريخية، ترفعُ الكلمةَ فوقَ البندقية، وتتمسَّكُ بالحوار فوقَ التهديد، لكنَّ الواقعَ اليوم يبدو مختلفاً، إذ تُستدرج من بعضِ أصحابِ المصالحِ الضّيقة والمدعومةِ خارجيّاً إلى نزاعٍ دمويّ فوضويّ، تُحرَّكُ فيه العصبياتُ، وتُستفزُّ فيه الهُويات، ويُراد له أن يتجاوزَ الخلافاتِ المحلية ليصلَ إلى إعادةِ تعريف التَّعايشِ السُّوري نفِسه، في محاولةٍ لبناءِ معاقلَ مسلحةٍ خارج سلطةِ الدولة، ومفاقَمةِ الأحداثِ لتحظَى بتغطيةٍ إعلاميةٍ دولية وتحالفات إقليمية، لتقويضِ سيادةِ الدولة وتهديدِ الإطارِ الوطنيّ الشاملِ لجميع الطوائفِ من دون استثناء.

ما يجري اليومَ في سوريا يتجاوز البعدَ الأمنيَّ إلى أبعادٍ أكثرَ تعقيداً، ترتبطُ بمستقبلِ التركيبةِ السكانية، والخريطة الاجتماعية، وهُوية الدولة، فالنزاع الديموغرافيُّ في السويداء ليس مجرد تحوّل محليّ، بل ورقة خطرة، وإذا ما جرى استخدامُها، فإنَّ نتائجَها لن تخدم أبناء سوريا، بل ستخدم فقط القوى الإقليمية التي تسعى لتفكيك البلد، وإعادةِ تشكيله على قاعدةِ الطوائف والمناطقِ والولاءات العابرةِ للوطن.

لذا، فإنَّ تأكيد 11 دولةً عربيةً وإسلامية، دعمَ أمنِ سوريا ووحدتَها واستقرارَها وسيادتها، ورفضَ كلّ التَّدخلات الخارجية في شؤونها، كانَ بمثابةِ رسالةٍ بأنَّه لا مكانَ للفتنة في سوريا، وأنَّ تلك الدولَ تدعم دمشقَ في فرضِ سيادتِهَا على كاملِ ترابِهَا. ويقودُ كلُّ هذا إلى محاسبةِ كلّ المسؤولين عن التَّجاوزاتِ ضدَّ المواطنين السوريين في السويداء، ودعمِ كلّ جهودِ بسط الأمنِ وسيادة الدولة والقانونِ على كلّ شِبر من الأرض السورية، ونبذِ العنفِ والطائفية ومحاولاتِ بث الفتنة والتحريضِ والكراهية.

في ظلّ هذا المناخ المتوتر، باتتِ الحكومةُ السورية مطالَبةً أكثرَ من أيّ وقتٍ مضَى بإعادة النَّظر في طريقة تعاطِيها مع الملفاتِ الداخلية ذاتِ الحساسيَّة التاريخية، خصوصاً تلك التي تمسُّ المكوناتِ الاجتماعيةَ.

مراجعة الأداء لا تعني ضعفاً أو تنازُلاً، بل تعكس شجاعةً سياسيةً، والمبادرة إلى استيعابِ الأصواتِ القلقة، والانفتاح على مختلف المكوّنات، لم تعد رفاهيةً سياسية، بل ضرورة وطنية ملحَّة.

الدَّولةُ التي تَسعَى إلى المستقبلِ لا تخشَى التَّهدئة، ولا ترَى في الحِوار ضعفاً، بل تعده أداةً لإعادةِ بناءِ الثّقة، ومتَى ما شَعرتِ الأقلياتُ بأنَّها مصونةٌ، والأكثرياتُ بأنَّها مسؤولة، عادَ الوطن إلى مساره، وهدأتِ الأصواتُ العالية لصالحِ المشروع الجامع.

سوريا اليوم لا تحتملُ فتناً جديدةً، بل تحتاجُ إلى مشروعٍ وطنيّ يتجاوزُ الهوياتِ الضيقة، ويراهنُ على جمعِ السُّوريين لا فرزهم، فالتَّاريخُ لا يرحمُ الدولَ التي لم تتعلَّمْ من دروسِها، والوطنُ الذي لا يتَّسعُ لأبنائِه... سيكون وطناً فارغاً هشّاً وهامشيّاً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد