لا شك أنه سؤالٌ حساسٌ للغاية، يُلامس عقوداً من السياسات الاجتماعية والاستخباراتية الخاطئة، وأسبابُ ذلك متعددةُ الأوجه، تنبعُ من اختلالاتٍ في الهياكل السياسية، والظروف المجتمعية، وقدرات أجهزة الاستخبارات، وهي بشكل عام انعكاسٌ للظروف، وتعدد نقاط الضعف، التي يُمكن للعدو استغلالها، فقد نجحت مثلاً أجهزة الاستخبارات: الموساد (الخارجية)، والشين بيت (الداخلية)، في اختراق مواطني الضفة، من خلال أربعة دوافع بشرية رئيسية، يشار إليها بـMICE، وتمثل الحروف الأولى، بالإنكليزية، المال والأيديولوجيا والإكراه والأنا، حيث لعب الفقر وقلّة فرص العمل دوراً في دفع الكثيرين إلى القيام بأمور خارجة عن طبيعتهم، خصوصاً إن كانوا في ضائقة، وكان العرض مغرياً. كما أن فساد أي مجتمع يجعل الخيانة مقبولة، فما الفرق بينها وبين قبول رشوة مالية للقيام بعمل غير قانوني؟
كما تلعب خيبة الأمل السياسية والأيديولوجية، ومعاداة نظام الحكم، دوراً في خلق من هم على استعداد للتعاون مع أعدائه انتقاماً منه، فـ«عدو عدوي صديقي».
كما أن عدد الانقسامات والتوترات الطائفية والعرقية، والشعور بالغبن، والتفرقة في مجتمعاتنا الشرق أوسطية، تسهل على العدو استغلالها لمصلحته، إضافة إلى ظروف الحياة الصعبة جداً في الأراضي المحتلة، وحاجة الفلسطيني الماسة، في كل خطوة، إلى رضا الإسرائيلي عنه، وهذا يسهل عملية ابتزازه.
كما تلعب قدرات إسرائيل التكنولوجية والرقابية المتقدمة دوراً في تمكينها من اختراق كل مجتمعاتنا، إضافة إلى كل ذلك هنالك الدوافع الشخصية، أو الأنا، مثل الرغبة في الانتقام من منافس أو زعيم مجتمع، أو مسؤول أساء للعميل المفترض، بحيث جعله أكثر استعداداً للتعاون مع العدو ضد من أساء إليه.
لكن لماذا يُعدّ العكس أكثر صعوبة؟
لا شك أن أجهزة الاستخبارات، وبالذات المصرية، حاولت - ونجحت أحياناً - في تجنيد عملاء لها داخل إسرائيل، إلا أنها كانت دائماً تواجه ظروفاً مختلفة، يمكن تلخيصها بـ:
1 ــ تماسك وطني قوي ووعي أمني في إسرائيل.
2 ــ تميز المجتمع الإسرائيلي بـ«عقلية الحصار»، التي تخلق لديه شعوراً قوياً بالوحدة الوطنية والمصير المشترك، وتشكّل هذا الشعور عبر تاريخ من الصراع وتهديد وجودي مُتصوّر ومستمر، وهذا يجعل الخيانة الأيديولوجية أكثر ندرة.
3 ــ استخبارات داخلية فعالة، مع يقظة المجتمع تساعد في الإبلاغ عن المشبوهين.
4 ــ وضع اقتصادي أفضل، ويأس أقل انتشاراً.
5 ــ انشغال معظم المخابرات العربية، طوال عقود، بالأمور الداخلية، وأمن الأنظمة، بدلاً من العمل على الاستخبارات البشرية المتطورة والطويلة الأمد ضد «هدف صعب» مثل إسرائيل.
وبالتالي المسألة لا تتعلق بالصفات الشخصية لشعوب الطرفين، بل بالتفاوتات الهائلة في الظروف الاقتصادية، والحريات السياسية، والتماسك الاجتماعي الداخلي، وقدرات وتركيز أجهزة الاستخبارات المعنية استراتيجياً، بيننا وبينهم. فقد نجحت إسرائيل في استغلال الاختلالات السياسية والاقتصادية العميقة في المنطقة، في حين أن مجتمعها، المُحكم أمنياً والمُوحد نسبياً، مثّل هدفاً صعباً.
* * *
بالرغم من مرور قرابة قرن على الصراع العربي الإسرائيلي، فإن قلة تعلمت مدى أهمية قضايا الحرية والكرامة الإنسانية في بناء مواطن حر وأبي، وعلى أتم الاستعداد للتضحية بنفسه في سبيل وطنه، بحيث يصعب على العدو إغراؤه وتجنيده، وهذا ما مررنا به خلال احتلال قوات صدام حسين لوطننا طوال سبعة أشهر، وما بذل من أرواح غالية في مقاومته، وفشله في إيجاد كويتي واحد على استعداد للتعاون معه، ضد وطنه وقيادته الحكيمة، التي وفرت له كل متطلبات الحرية والكرامة، والتي لا يمكن تعويضها بناطحات سحاب ومولات وسيارت فارهة، فجميعها لا تغني الإنسان عن فطرته وعشقه لاستنشاق رياح الحرية، والتمتع بـ«آدميته».
أحمد الصراف