: آخر تحديث

غربة الداخل.. حين تُصبح الروح وطنًا منفى

10
9
8

هناك لحظات تمرّ بنا لا تشبه الوقت، بل تشبه الحافة. نقف عندها مشدوهين، كمن ينظر في مرآة لا تعكس ملامحه، بل تكشف عن صدعٍ في أعماقه. تلك هي لحظات الغربة، لا غربة المكان، بل غربة الداخل.. حين يُصبح القلب بيتًا بلا نوافذ، وتغدو الروح منفى تُجلد فيه الذكريات.

ما أقسى أن تُحاصر بينك وبينك، أن تكتشف أن الزمن لا يسير، بل يلتف حولك، كأفعى تُمسدك بالوهم ثم تُطبق عليك خنقًا. نعيش في عصرٍ مزدحمٍ بكل شيء إلا الصدق، مزدحمٍ بالكلمات الفارغة، بالوجوه المصقولة، بالابتسامات المحنّطة على شفاه أنهكها الزيف. كم مرة حاولت أن تتكلم ولم تجد من يسمع، لا لأنك غير مسموع، بل لأن الصمت أصبح اللغة الوحيدة التي يفهمها الناس؟ كم مرة شعرت أنك في مكان لا يشبهك، تُمارس فيه حياة لا تُشبهك، وتؤدي دورًا كُتب لك دون أن تُستشار؟ إنها ليست فلسفة سوداوية، بل واقع يُدمنه الكثيرون بصمت. واقع يُزيّنونه بألوان الفلاتر وابتسامات «الستوري»، فيما الأرواح تنزف خلف الشاشات. نحن جيل مُرهق، لا لضعفٍ فينا، بل لأن العالم أصبح مرآةً مشروخة نُحدّق فيها كل يوم، فنرى انكساراتنا تتكرر وتتعدد، دون أن نعرف كيف نُرممها.

أين الخطأ؟ فينا؟ في الآخرين؟ أم في العالم الذي خلقنا لنلعب فيه أدوارًا لا تشبه أرواحنا؟

لقد صار التكيّف نوعًا من الخيانة للذات. نلبس ما لا نحب، نقول ما لا نقصد، نعيش بين الناس لكننا لا نعيش بنا. وكم من مرة ضحكنا في وجه الحياة ونحن نختنق منها!

الأدب الحقيقي هو وحده من يجرؤ على فتح هذا الجرح. هو من لا يُجاملك، بل يضع مرآته في وجهك، ويقول لك: «أين أنت؟». والنقد الأدبي، حين يكون صادقًا، لا يُعلّق على النص فحسب، بل يعلّق الجرس في روح الكاتب، فيحرضه على أن يكون صادقًا، حتى وهو يختبئ خلف البلاغة. إن وظيفة الأدب ليست التجميل، بل الكشف. وليست الإبهار، بل التنقيب في أعماق الإنسان، حتى تلك الزوايا التي نخشاها. وفي زمنٍ امتلأ فيه كل شيء بالضجيج، ما أحوجنا إلى الكتابة التي تصمت لتجعلنا نسمع أنفسنا.

الوجع لا يُكتب من الخارج، بل من التجربة. من الانكسار الذي لا تراه العين، بل يشعر به الضمير. وكل نصّ لا يُشبه صاحبه، لا يستحق أن يُقرأ. فإن أردت أن تكون كاتبًا حقيقيًا، كن جريئًا أن تُواجه ذاتك، أن تكتب عن قلقك، عن حزنك، عن شكك، عن كل ما يجعل الإنسان إنسانًا.

النقد اليوم، في غالبه، أصبح شكليًا، يُشبه مجاملة اجتماعية طويلة. يُراقب المفردات، ويُحاكم التراكيب، لكنه ينسى أن النص هو كائن حيّ، لا يُفكك كما تُفكك المعادلات، بل يُفهم كما يُفهم الإنسان.

نحتاج إلى نقاد يملكون قلبًا، لا مجرد عقل. إلى قرّاء يسألون الكاتب: لماذا كتبت؟ ماذا أردت أن تقول؟ لا فقط: ما الوزن العروضي؟ وما الصورة البيانية؟ فالأدب ليس اختبارًا لغويًا، بل محاولة لفهم الحياة.

ربما لن نُغيّر العالم بمقال، أو بقصيدة، أو برواية، لكننا سنُضيء زاويةً مظلمة في القلب، وقد تكفي شمعة واحدة لتكسر عتمة كاملة.

فلنكتب... لا لنبهر، بل لنتحرر.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد