محمد خالد الأزعر
وأعلن، على إثر زيارة ميدانية قام بها إلى فلسطين عام 1891، بأن «هذه البلاد وطن قومي لسكانها الموجودين فيها لأجيال كثيرة، ولذا فإن الساعين إلى استيطانها، يمكنهم في الحد الأقصى تحويلها إلى كيان ثنائي القومية».
وأشاع من خلالهما فكرة أن فلسطين مساحة خالية جرداء، تتحرق لتحويلها بسواعد اليهود إلى أرض للبن والعسل، منكراً وجود عمرانها الفلسطيني الأصيل..
وكذلك فعل خليفته ماكس نورداو، حتى أنه لم يأبه بتقرير مندوبين أرسلهما لاستطلاع أوضاع فلسطين على الطبيعة، وكانت خلاصته بالرمز «العروس مستوفية لكل الشروط، لكنها متزوجة فعلاً»!..
فبعد خمسين عاماً من زمن هرتزل ونورداو وبطانتيهما، ذهبت جولدا مئير رئيسة وزراء إسرائيل في يونيو 1969 إلى أنه «ليس هناك شيء اسمه الشعب الفلسطيني».
واليوم، وبعد أكثر من خمسين سنة أخرى، واعتراف 138 دولة وأعلى رموز التنظيم والقانون الدوليين، بحق الفلسطينيين في تقرير المصير والدولة، وما تعنيه موادعات أوسلو وتوابعها من تمهيد للاعتراف بهذا الحق، من جانب قطاعات إسرائيلية جرى إسكاتها سريعاً، نجد خلفاء مئير، من شاكلة نتانياهو وبن غفير وسموتريتش وسواهم كثيرين، يرددون المقولة ذاتها.. أمأ بنصها كما هو وإما باعتماد محتواها ودلالاتها عملياً.
ففي تصريحه الشهير حول فلسطين عام 1917، أنكر بلفور وزير خارجية بريطانيا، العظمى وقتذاك، أي استحقاقات قومية سياسية للفلسطينيين، واكتفى بالإشارة إليهم بحسبهم «طوائف مدنية ودينية غير يهودية مقيمة في البلاد».
وكسياسي متمرس مخضرم، كان الرجل يعرف مؤدى كل كلمة في تصريحه، مدركاً للفارق بين تنسيب مفهوم القومية لليهود، وتعريف غيرهم بأنهم مجرد طوائف أخرى «مقيمة». وبالمناسبة ما زالت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تتوسل بهذا المصطلح في وصف فلسطينيي القدس بخاصة، فهم عندها «مقيمون لا مواطنون»!
بينما يتنكر ترامب لأحقية الفلسطينيين في التحرر والاستقلال والدولة، متجاوزاً لفرضية زوال تراث تلك الحقبة السوداء عموماً من جهة، ومتخطياً للتراكم والتبلور الساطع الذي يخرق العين لأطر الاجتماع السياسي للفلسطينيين من جهة أخرى.
وإذا كان وعد بلفور قد اعتبر الفلسطينيين مقيمين يجب «مراعاة حقوقهم المدنية والدينية»، فإن ترامب لا يراهم فيما يبدو سوى صفقة عقارية، يمكن تهجيرهم ونقلهم كرهاً أو طوعاً إلى كيانات إقليمية أو دولية أخرى.
وإذا كان عهد بلفور الاستعماري، قد أفضى إلى تدمير حياة هذا الشعب وتهجير غالبيته جراء جولتي الصراع الشهيرتين عامي 1948 /1949 و1967، وتحويل قضيته إلى كرة نار، حار الخلق أجمعين في إطفاء لهيبها داخل فلسطين ومحيطها الإقليمي..
فإن عهد ترامب ومداخلات دولته، ونفوذها، الطليق تقريباً، في التعامل مع جولة الصراع المتفاعلة حالياً، ينذر بأيام صعبة.