لم يكن التغيير في بيئات العمل يومًا بهذه السرعة. ما كان يُعد سابقًا من مفردات المستقبل، بات اليوم عنصرًا أساسيًا في المشهد المهني. الوظائف يُعاد تشكيلها، والمهارات الكلاسيكية لم تعد كافية لضمان الاستمرار أو التفوق. في قلب هذا التحول المتسارع، يقف الذكاء الاصطناعي التوليدي كأكثر الأدوات تأثيرًا على علاقة الإنسان بالعمل، ليس فقط من حيث تسهيل المهام، بل بإعادة تعريف من يؤديها وكيف.
لفهم هذا التغيير بعمق، من الضروري الإحاطة بطريقة عمل هذه التقنية. الذكاء الاصطناعي التوليدي لا يملك وعيًا ولا نية، بل يعتمد على خوارزميات معقدة تتدرب على مليارات الأمثلة النصية والبصرية لتحاكي أنماط اللغة والتفكير البشري. حين تكتب له أمرًا، لا يقوم بالفهم بالمعنى البشري، بل يتنبأ بأفضل استجابة ممكنة بناءً على ما تعلمه. لكنه مع ذلك، ينتج محتوى بمستويات جودة تقترب من الإنسان، وأحيانًا تتفوق عليه في السرعة والكفاءة. ولهذا السبب، تتغير طبيعة العلاقة بين الإنسان والأداة: من الاستخدام إلى التعاون.
السؤال الذي يطرح نفسه على مستويات عدة: هل هذا الذكاء قد يأخذ مكاني؟ الإجابة ليست بسيطة، لكنها واضحة في ملامحها الكبرى. المهام التي تقوم على التكرار أو المعالجة الروتينية هي الأقرب إلى الأتمتة. في المقابل، المهام التي تحتاج إلى حكم بشري، حس إداري، إبداع استراتيجي أو فهم اجتماعي عميق، ما زالت بحاجة إلى العنصر البشري. بل إن الذكاء الاصطناعي لا يُقصي الإنسان، بل يكافئ من يُحسن استخدامه.
في السعودية، يزداد عدد المستخدمين للذكاء الاصطناعي التوليدي بوتيرة متسارعة، ليس فقط في القطاع التقني، بل في مختلف المجالات. تطبيقات مثل (ChatGPT، Microsoft Copilot، Notion AI) وغيرها الكثير أصبحت أدوات يومية تُستخدم في مختلف المجالات.
ما يُميز هذا المشهد المتجدد هو بروز مهارة جديدة: هندسة الأوامر. فطريقة كتابة الطلب الموجّه إلى الذكاء الاصطناعي أصبحت مهارة لا تقل أهمية عن معرفة الأداة نفسها. الشخص الذي يحدد بدقة ما يريده، ويقدم له السياق الصحيح، ويحسن صياغة النبرة والمخرجات، هو من يحصل على نتائج أكثر احترافية، وفي الواقع الكثير بدؤوا يبنون أعمالًا أو يعيدون هندسة مساراتهم المهنية اعتمادًا على هذه المهارة الناعمة الجديدة، التي تجمع بين التفكير التحليلي والذكاء اللغوي.
وفي هذا السياق، يتعين على القيادات أن تعيد النظر في فلسفة التدريب والتمكين داخل مؤسساتهم. لم تعد معرفة أدوات بعينها كافياً، بل من المهم إتقان نمط جديد من التفكير الإنتاجي يتكامل فيه الذكاء البشري مع الذكاء الاصطناعي. تجاهل هذا التحول ليس مجرد مخاطرة، بل تأخر في الاستجابة لعصر جديد لا ينتظر أحدًا.
الذكاء الاصطناعي قد لا يأخذ مكانك مباشرة. لكنه سيمنح الأفضلية لمن يعرف كيف يستخدمه بذكاء. والفرق بين من يصعد في بيئة العمل الجديدة، ومن يبقى في الخلف، قد لا يُقاس بالمؤهل أو سنوات الخبرة، بل بجملة مكتوبة جيدًا تُطلق قدرات لا نهائية من خلف شاشة.