: آخر تحديث

البعد الثلاثي الذي تراه أعيننا

3
2
3

لو امتلكت ثروة كافية، سأشتري قصراً.

سأزرع حوله أشجاراً كثيفة، وأترك السناجب تطارد بعضها بين الأغصان، وأطلق حيوانات أليفة من كل شكل ولون. سأبني منعزلات صغيرة، واحداً على هيئة بيت صيني، وآخر على شكل قبة فارسية، وأمهد ممرات أقود فيها دراجتي في الهواء الطلق، بينما أستمع إلى موسيقى، أو أنصت لكتاب، أو أتابع بودكاست.

سأحفر بحيرات يتجدد ماؤها ببطء، وأشتري بطّاً وأوزاً تسبح فيها بسكينة، ثم تهب فجأة متصايحة وتركض على سطح الماء، لسبب في عالمها لا نعلمه. سأضع حولها مقاعد أسترخي عليها، أراقب انعكاس الضوء وظلال الأشجار على الماء، وأحرص ألا أفوّت الصباح الباكر ومتأخر الأصيل.

لكنني لن أكون سعيداً.

لن أستطيع شراء أشياء أحبها. لن أقطع المشوار من بيتي إلى الحديقة العامة مترقباً ما يحمله اليوم من مفاجآت. لن أرى بشراً بأعمار وأحجام وطبائع متباينة، يركضون في الصباح الباكر أو يعرضون مهاراتهم على الزلاجات، وأسمع صوت عجلاتها وفرقعة قفزاتها. لن أكتشف هواية فأتعلمها، أو أفشل فأتعلم تقديرها. لن أشارك مقاهي الحديقة خليطها البشري المسلي، تتسرب إلى أذني شذرات من تجارب وحكايات، وتشاهد عيني «كاراكترز» لا يجمعها حتى فيلم لروبرت ألتمان. ولن أرى تنويعات سلوك الأطفال فأستعيد عمراً لا تحفظه ذاكرتي، أو أتفكر في طبائع غريزية قمعها نموي، أو أدرك المسافة التي قطعتها أجسادنا منذ الخطوة الأولى.

قبل أيام، جلست على مقعد البحيرة في نهاية نهار صيفي مشمس. الشمس تتهيأ لغروب فضي، والبحيرة ممددة في جلسة مساج كوني مستسلمة لنسمات لندنية تمسح سطحها كأصابع من حرير. أسندت دراجتي إلى جانب المقعد، واتكأت عليها بمرفقي الأيمن. من هذه الزاوية بالتحديد رأيت انحناءة البحيرة وسط صفين من الشجر، لوحة طبيعية لم تكن عين مونيه لتحيط بها، ولا ريشته لتحاكيها.

أخرجت هاتفي بسرعة، وضبطت الكاميرا بدقة، ووضعتها في زاوية عيني نفسها، والتقطت الصورة. النتيجة كانت جيدة لكنها بعيدة عن مستوى الجمال الذي رأيته. أعدت المحاولة مراراً، بلا فائدة. لماذا؟

أعرف أن العين ترى بعمق ثلاثي الأبعاد لا تجاريه الكاميرا، لكن هذا لم يكن الإجابة الشافية. أبعدت الموبايل، نظرت بعينيّ مرة أخرى، ورسمت إطاراً حول ما أراه، وحددت محتواه. ثم قارنته بما في إطار صورة الموبايل. المفاجأة أنني وجدت المشهدين متطابقين من حيث العناصر، مع فارق أساسي.

العقل ينتقي تلقائياً حيزاً معيناً يراه بوضوح، ويجعل ما حوله ضبابياً. العقل يرى تلقائياً بعين تحليلية، فيقسم المشهد إلى متن وهوامش. العدسة تساوي بين كل العناصر، في المركز والأطراف، فتظهر النتيجة باردة ومزدحمة، خالية من الدراما.

أليس هذا شبيهاً لمشكلة في رؤيتنا للحياة عموماً؟

حين نمنح كل شيء الاهتمام نفسه، تختلط أسباب سعادتنا الجوهرية بالتفاصيل الهامشية. يتساوى لدينا الراسخ بالعارض. ولا نفرق بين من نحب دائماً ومن يمر عابراً. ننشغل بما لا يخصنا على حساب ما يخصنا. في الإدارة، نتشتت عن أهدافنا المحورية إلى مطاردة ما يلمع، مثل شركة تنصرف عن منتجها الأساسي إلى منتجات ثانوية. وفي السياسة، نفقد الرؤية الاستراتيجية من أجل أهداف صغيرة، ومعارك جانبية، أو نُستدرج للانشغال بما كان عقلنا ليتجاهله لولا المؤثرات.

البعد الثلاثي الذي تراه أعيننا ناتج في حد ذاته عن تركيز الاهتمام من كلتا العينين على النقطة نفسها؛ المنطقة التي يتقاطع فيها نظر العينين هي التي نراها واضحة وعميقة، أما الأطراف، التي نراها بنصف عين، ونصف قلب، فترحل طوعاً إلى الهامش.

لو كانت لدي ثروة لاشتريت قصراً، لكن لو خُيّرت إما القصر وإما الحديقة العامة، فسأعرف أين تكمن سعادتي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد