: آخر تحديث

المؤامرات حقيقية... أمَّا النظريات فقد تكون فخاخاً

2
2
1

أحياناً ما يتكهن العلماء الذين يدرسون الكون بقوى افتراضية قد تفسر بيانات أو نتائج غريبة، فعلى سبيل المثال، اقترح بعض علماء الفلك وجود كوكب إضافي في نظامنا الشمسي، بعيد جداً خلف كوكب بلوتو، يمكن أن تفسر تأثيراته بعض الحركات السماوية الأخرى. كما أن علم الكونيات الحديث يفترض وجود مادة ضخمة غير مرئية تُعرف باسم «المادة المظلمة»، التي يجعل وجودها المُفترَض من المنطقي تفسير تأثيرات الجاذبية التي كانت لتبقى غامضة لولاها.

ويمكن فهم نظريات المؤامرة، التي باتت مؤثرة جداً في النقاشات الأميركية مؤخراً، على أنها المعادل السياسي لنظريات المادة المظلمة، فهي تظهر في المواقف التي يبدو فيها أن حركة ما أو حدثاً ما غير مرجح أو غريب، إلا إذا افترضت وجود عنصر غير مرئي في القصة، قوة خفية تمارس تأثيراً، وعبارة «هناك شيء مفقود من البيانات» ليست رد فعل للباحثين أمام لغز علمي فحسب، بل هي أيضاً استجابة المواطنين لتطورات لا تبدو منطقية بالكامل.

وأحياناً تكون هذه الاستجابة، وما ينتج عنها من نظريات، في غير محلها تماماً، كحال العالِم المختل الذي يخترع كوناً إضافياً بينما كان بإمكان تعديل بسيط في نتائجه أن يحل المشكلة، لكن أحياناً يكون هناك بالفعل شيء غير مرئي في القصة، والخطأ لا يكمن في التفكير في نظرية، بل في التمسك بسرعةٍ بنظرية واحدة، وذلك غالباً لأسباب آيديولوجية، بينما يمكن أن تكون هناك حلول أخرى ممكنة.

لنأخذ، على سبيل المثال، قضية جيفري إبستين، التي ما زلت أعد نفسي مؤمناً بوجود مؤامرة فيها، بمعنى أنني أعتقد أن هناك أحداثاً وتأثيرات رئيسية في قصته لم يُكشف عنها بعد.

لكن النظريات السائدة حول هذه الأحداث الخفية متأثرة بشدة بالدوافع الآيديولوجية، فقد ركّز نشطاء ومؤيدو حركة «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (MAGA) طويلاً على احتمال أن إبستين كان يدير شبكة دعارة لصالح رجال أثرياء، وهو ما يتماشى مع روايتهم السائدة حول الاتجار بالأطفال وانحرافات النخبة.

وفي الآونة الأخيرة، تبنّى معارضو الرئيس الأميركي دونالد ترمب نظرية مفادها أن المادة المظلمة في قصة إبستين قد تكون مرتبطة مباشرةً بالرئيس الأميركي نفسه.

وفي الوقت نفسه، يروّج جزء من اليمين الشعبوي لنظرية قديمة مفادها أن إبستين كان على صلة بالموساد (الإسرائيلي)، لأن ذلك يتماشى مع عدائهم المتزايد تجاه إسرائيل.

ولكن، ماذا لو كان السر الحقيقي هو أن إبستين كان مجرماً مالياً بارعاً، وماهراً في تحريك الأموال لصالح جهات دولية مشبوهة، وأن سلوكياته الجنسية تم التغاضي عنها بسبب تلك المهارات، وليس لأنه كان يملك مواد ابتزاز جنسية ضد أصدقائه، ولا أقول إن هذا هو الواقع، بل أطرحه كاحتمال معقول تم تجاهله لأنه لا يخدم أي هدف آيديولوجي.

ثم لننظر أيضاً في قضية «روسيا غيت» (Russia Gate)، التي تنقّلنا خلالها بين قراءات مؤامراتية متعددة للانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، فقد بدأت القصة بنظرية المعارضة حول وجود تأثير روسي خبيث على حملة ترمب أو على ترمب شخصياً، وهي النظرية التي أدت إلى فتح تحقيق روبرت مولر وخلقت مناخاً من الهستيريا. أما الآن، فقد حلّت محلها نظرية أنصار ترمب، التي تزعم أن إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تآمرت للترويج لسردية زائفة عن التواطؤ، بهدف تقويض رئاسة ترمب منذ لحظاتها الأولى. وفي كلتا الحالتين، كانت النظريات تفسر المؤامرة ذاتها، التي كانت خفية إلى حد كبير عام 2016، لكنها أصبحت أكثر وضوحاً لاحقاً، وهي عملية معلوماتية روسية تهدف إلى تقويض الديمقراطية الأميركية.

لكنَّ كلا المعسكرين، وفقاً لقراءتي للأدلة، انتهى به الأمر إلى تحميل خصومه المحليين قدراً مبالغاً فيه من المسؤولية التآمرية، مقابل التقليل من الدور الحقيقي الذي لعبه الروس أنفسهم.

وقد نظر المعسكر المناهض لترمب إلى مدى حماسة حملته في الاستجابة لاختراقات البريد الإلكتروني عام 2016 وتسريبات «ويكيليكس»، وافترضوا أن الحملة لا بد أنها كانت متواطئة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أما الآن، فينظر المعسكر المؤيد للرئيس الأميركي إلى المعلومات المضللة وإلى المنطق المتحيز الذي صاحب بدء تحقيقات التدخل الروسي، ويَفترض أن معسكر أوباما كان يعلم منذ البداية أن هذه القصة ملفَّقة. ولكن في كلتا الحالتين، من المرجح أن المتآمرين الحقيقيين الوحيدين، الواعين تماماً لما يفعلونه، كانوا الروس، فقد كانت مؤامرتهم هم، التي شارك فيها كل من الجمهوريين والديمقراطيين، ولكن كضحايا مخدوعين.

وأخيراً، كلمة حول لغز مفضَّل لديَّ، وهو ذلك الاهتمام الحكومي الغريب بالأجسام الطائرة المجهولة، الذي يستحق الانتباه، لأن زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر والسيناتور الجمهوري المحافظ من ساوث داكوتا، مايك راوندز، يدعمان مرة أخرى إضافة بند يُلزم بالكشف عن المعلومات المتعلقة بالأجسام الطائرة ضمن قانون تفويض الدفاع الوطني، وفي حالة راوندز، فقد لمَّح علناً إلى أن ما رآه أعضاء مجلس الشيوخ في جلسات سرّية هو أغرب حتى من الأشياء الغريبة التي كُشف عنها حتى الآن.

وقد أزعج اهتمامي المستمر بهذا الموضوع كلاً من المشككين بالأجسام الطائرة المجهولة، وأحياناً المؤمنين بها، لأنني لا أعتقد أن أياً من النظريات أو الادعاءات التي تم الكشف عنها قد قدمت دليلاً قاطعاً. لكنني أحاول أن أجد توازناً، فهناك بوضوح أمر غريب يحدث في هذا الملف، شيء لا نراه، تأثير يشبه «المادة المظلمة» قد يكون عملية نفسية تتعلق بالأمن القومي أو ربما شيئاً أغرب من ذلك، ومن المقبول تماماً أن نقول ذلك مراراً وتكراراً، مع رفض الوقوع في أسر نظرية صيغت من دون حقائق أساسية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد