محمد بن صقر
لا أريد أن أحمل ذاكرة الجماهير أوزار ومسائل حكمها على الأحداث، لأن الذاكرة رهينة المواقف والسرديات التي تتعامل معها. فالسلوكيات والأحكام التي تخرج هي نتيجة لما تم إدراكه. ولكن أحاول، أن أطرح تساؤلًا جدليًا لن تكون له إجابة محددة برأيي، وبذلك اختصر على القارئ الكريم فهم هذه المساءلة الشائكة التي يبحث فيها عن إجابة واحدة. هذا التساؤل هو هل يمكن اعتبار ذاكرة الجماهير مستندًا ومرجعًا عادلًا ومنصفًا في الحكم على الشخصيات التاريخية والأحداث الفارقة والمواقف الحاسمة عبر مسلسل الدول وما مرت به؟ سؤال يبدو منطقيًا وملحًا في الوقت نفسه، خاصة وأنت تقلب صفحات التاريخ وصفحات الشخصيات التي لعبت دورًا حاسمًا في صناعته، ولكنك تفاجأ بتقلب الآراء حول هذه الأحداث والشخصيات، وكيف أن ذاكرة الجماهير أغفلت بطولات وقصصًا وتضحيات في بعض الأحيان، من أجل لحظه قد لا تكون منصفة أو لها ظروفها الخاصة. وحتى يتضح المقال نجد هذا الأمر يبدو جليًا في ذكر بعض الشخصيات التي لها مواقف عظيمة بدولها وأمتها. فعلى سبيل المثال «تشرشل» الذي كان رجل دولة بريطانيًا وخطيبًا مفوهًا قاد بلاده من حافة الهزيمة إلى النصر، يتعرض لانتقادات واسعة من الجماهير أثناء ارتكابه خطأ عندما كان وزيرًا للمالية، وهو عدم خروج الجنيه من قاعدة الذهب، وخسرت بريطانيا الملايين بسبب سوء تقدير الوزير، فلم تشفع له أعماله الوطنية أمام ذاكرة الجماهير لتجاوز ذلك الخطأ. رئيس الولايات المتحدة «ريتشارد نيكسون»، كان يُنظر إليه في بداية مسيرته السياسية كسياسي صاعد وقوي، خاصة في فترة الحرب الباردة. لكن «فضيحة ووترغيت» أدت إلى استقالته وفقدانه شعبيته بشكل كبير، وتحول إلى رمز للفساد السياسي. هنا لا ألوم الجماهير على انتقادهم له وحتى لا يفهمني القارئ بشكل خاطئ، أحب أن أبين أن ذاكرة الجماهير تتعامل مع المواقف بشكل آني، فهي تكون معك وفية وممكن أن تقدسك وتتغنى بعباراتك في لحظة ما، ولكنها قد تكون معاتبة قاسية وحاكمة غير عادلة في وقت آخر. وتنقلب الجماهير التي كانت بالأمس القريب محل تبجيل وإعجاب، بمجرد ارتكاب خطأ أو اتخاذ موقف يُنظر إليه على أنه يمس مصالحها أو قيمها. والشواهد على هذا التحول المفاجئ كثيرة، سواء تعلق الأمر بشخصيات فكرية اهتزت صورتها بسبب تبنيها لآراء جديدة لم تستسغها الجماهير، أو شخصيات دينية فقدت بريقها نتيجة لسلوكيات لم تتعود عليها الجماهير، أو شخصيات سياسية سقطت بسبب قرارات خاطئة أو فضائح هزت ثقة الجمهور بها. التاريخ يشهد بأن ذاكرة الجماهير ليست كيانًا واحدًا ذا منهج ثابت يمكن التعامل معه أو التنبؤ به. هذا التقلب في ذاكرة الجماهير يثير تساؤلات جوهرية حول مدى موضوعيتها وعدالتها. فهل تستند هذه الذاكرة دائمًا إلى تقييم عقلاني ومنطقي للأحداث والشخصيات، أم أنها تتأثر بعوامل أخرى مثل العواطف، والتحيزات الثقافية، والتأويلات السياسية اللاحقة والمواقف التي تمس مصالحها وقيمها؟ وهل الحكم عليها في فترة من الزمن يمكن أن يتغير بناء على تلك العوامل التي ذكرتها؟ من الواضح أن ذاكرة الجماهير ليست سجلًا تاريخيًا دقيقًا ومحايدًا ومحكمة عادلة يمكن اللجوء إليها عبر التاريخ، فهي أشبه بلوحة فسيفسائية تتشكل من سرديات متعددة ومختلفة، تتأثر بالظروف التاريخية والمعاصرة، وتخضع لعمليات انتقاء وتشويه مستمرة. فما يُحتفى به في زمن قد يُدان في زمن آخر، وما يُنظر إليه كرمز في سياق معين قد يُعتبر عنوانًا للسقوط أو الخيانة في سياق مختلف. فذاكرة الجماهير هي إحدى أدوات تشكل الوعي، ولكنها في الوقت ذاته ليست بمنأى عن المتغيرات التي تجعلها تميل إلى التحيزات والتقلبات. وهي تعكس في كثير من الأحيان آمال الجماهير وخيبات آمالها، قيمها وتناقضاتها. لذا، التعامل مع هذه الذاكرة يستدعي قدرًا كبيرًا من الحذر والتحليل النقدي ووضع معادلة يمكن اللجوء إليها في كل وقت دون تحيز أو تقلب، وعدم الاكتفاء بما ترسخ في التفكير والذاكرة الجمعية للجماهير التي تتأثر وتؤثر في الحكم على مجريات الأمور.ذاكرة الجماهير
مواضيع ذات صلة