: آخر تحديث

رجل على ناصية في نيويورك

6
6
5

سليمان جودة

الصورة المنشورة في أكثر من وسيلة إعلامية يوم 3 من هذا الشهر، لا بد أنها كانت صورة السنة في عام 1973.. ففي مثل هذا اليوم من تلك السنة، جرى التقاط صورة لرجل يقف على ناصية شارع في مدينة نيويورك الأمريكية، وهو يتكلم في جهاز كان يضعه على إحدى أُذنيه وأمام فمه معاً. كان منظر الرجل غريباً للغاية، وقد وصلت الغرابة في منظره، إلى حد أن كثيرين من المارة كانوا يتوقفون بُرهة أمامه، وهُم يحملقون فيه، ثم يذهبون وهُم يتعجبون، ويكادون يضربون كفاً بكف.

كان الرجل يتكلم في شيء يشبه التليفون المحمول، أو الموبايل بلغة هذه الأيام، ولو وقف يتكلم هذه الأيام على أي ناصية في أي مدينة، ما أثار منظره أي استغراب من جانب أي أحد بالتأكيد، ولكن المشكلة أنه وقف يتكلم فيما يشبه المحمول، بينما الدنيا كلها في ذلك الوقت لا تعرف محمولاً، ولا حتى تسمع عن شيء بهذا الاسم. أما الرجل، فكان هو المهندس الأمريكي، مارتن كوبر، وأما الذي كان في يده، فكان أول جهاز محمول يظهر في التاريخ!

كان كوبر، الذي يعود إلى أصول أوكرانية، مهندساً في شركة موتورولا، وكان قد وقف يجري أول مكالمة من خلال تليفون محمول في العالم، وكان يُجريها مع مهندس صديق له في شركة منافسة، وقد التقط الصديق المكالمة وسمعها، وكان الدليل أن كوبر وقف يتكلم، بينما المارة في غاية العجب من هذا الرجل الذي يكلم نفسه في عرض الشارع!

لقد بدا في ذلك الوقت البعيد، وكأنه يكلم نفسه فعلاً، لأن الناس لم يكونوا قد عرفوا ماذا بالضبط يفعل، ولأن كل ما رأوه أن رجلاً يتكلم في جهاز في يده، بينما العادة قد جرت على أن يتكلم الشخص مع شخص آخر، أو من خلال تليفون أرضي، لا مع جهاز في يده، بدا ضخماً في الصورة التي يجري نشرها مراراً، كلما جاء الثالث من أبريل من كل سنة.

تبيّن بعدها أن وزن أول جهاز محمول أجرى به كوبر مكالمته الأولى كان 790 غراماً، أي أنه كان يقترب من الكيلو غرام.. فإذا ما قارنا وزنه مع وزن آخر جهاز موبايل أنتجته الشركات المتنافسة في الأسواق، فسوف لا نكاد نصدق أن كل هذا التطور قد دخل عليه، ولا أن الرجل الذي أمسكه ثم وقف يتكلم منه في نيويورك، كان يحمل جهازاً بهذا الوزن في إحدى يديه.

وسوف يصاب كثيرون بالدهشة من أن يكون الموبايل قد ظهر لأول مرة في ذلك التاريخ البعيد، أو أنه قد استغرق كل هذا الوقت من يوم 3 أبريل 1973، إلى أن صار في كل يد في العالم، أو على الأقل، إلى أن عرفناه بهذه الكثافة في كل مكان. ومما قيل بعدها أن الشركة التي كان المهندس المنافس للمهندس كوبر يعمل فيها، كانت تعمل على تطوير تليفون السيارة، ليكون بديلاً عن التليفون المنزلي الذي يعمل بأسلاك نحاسية ممتدة بين كل تلفونين.

كل ما كان مارتن كوبر يطمع فيه أو يطمح إليه، أن يتخلص العالم من السلك النحاسي الممتد بين التلفونات الأرضية، ولم يكن يتخيل أن يبلغ التطور أو التطوير في جهازه الأول إلى هذا الحد الذي نعرفه اليوم، ويعرفه العالم. ولم يتوقف التطور ولا التطوير عند حدود الشكل ولا عند الوزن، ولكنه بلغ تفاصيل أخرى، جعلت هذا الجهاز جزءاً من حياة كل شخص يستعمله، فلم يعد في مقدور مستخدم الموبايل أن يستغني عنه، ولا أن يتخلى عنه إلا لدقائق يعود بعدها إليه سريعاً، وكأن في كل موبايل ما يشبه المغناطيس الذي يشد صاحبه إليه.

ومما هو منشور عن كوبر، نفهم أنه لا يزال على قيد الحياة، فإذا عرفنا أنه من مواليد 1928، كان هذا معناه أن ثلاث سنوات بينه وبين المئة سنة كاملة، وأنه يوم أن أجرى أول مكالمة على الموبايل، كان دون الخمسين. وعلى مدى السنوات الماضية، لم نطالع له شيئاً عن رأيه في مدى التطوير الذي بلغه اختراعه الفريد، فأي مقارنة بين الموبايل الذي كان في يده في 1973، وبين الموبايل الذي في أيدي الناس في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، تقول ألا علاقة بين ما كان وبين ما هو كائن وقائم، وأن الشيء ربما الوحيد الذي بقي منذ تلك السنة، هو اسم الجهاز، وما عداه شيء آخر تماماً، في مضمونه وفي محتواه. وسوف يظل هذا الاختراع في حاجة إلى أعمال بحثية جادة، ترصد تداعيات وجوده في حياة الناس.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد