عماد الدين حسين
هل انتهت العولمة، وهل سيعود العالم ليصبح جزراً منعزلة، وهل يعقل أن الدولة العظمي التي قادت الدعوة إلى العولمة، هي التي تتخذ قرارات وإجراءات تشجع على العزلة والحروب التجارية؟.
الأسئلة السابقة صارت مطروحة بقوة على جدول أعمال العالم، منذ عودة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مرة أخرى، إلى البيت الأبيض، وما كان مجرد وعود انتخابية، صار مطبقاً على أرض الواقع، خصوصاً بعد الإجراءات غير المسبوقة التي اتخذها ترامب، يوم 2 أبريل الجاري، وفرض فيها رسوماً جمركية على أكثر من 200 دولة بنسب متفاوتة.
وبسبب الردود من الدول الأخرى، فقد شهدت أسواق الأسهم والبورصات العالمية فوضى واضطرابات واسعة النطاق، ما أدى إلى تكبيد الشركات العالمية الكبرى خسائر بمئات المليارات من الدولارات، كما خسر أكبر 100 رجل أعمال أمريكي تريليونات الدولارات.
نسأل هل دخلنا مرحلة نهاية العولمة وبداية العزلة، خصوصاً أن رئيس الوزراء البريطاني، كير سترامر، قال في مقال رأي في صحيفة التلغراف: «العالم الجديد تحكمه بشكل أقل قواعد راسخة، وبشكل أكبر اتفاقات وتحالفات.. وفى كل الأحوال، فإن العولمة كما كانت معهودة، انتهت، بعدما فرضت أمريكا الرسوم الجمركية التي تثير تداعياتها المحتملة على الاقتصاد العالمي مخاوف واسعة النطاق».
بالطبع نعلم أن ترامب أطلق مؤخراً ما أسماه «يوم التحرير الاقتصادي»، معتبراً أن إجراءاته الأخيرة «ثورة اقتصادية»، ستربحها بلاده، رغم أن الأمر لن يكون سهلاً للأمريكيين.
ونعلم أيضاً أن ترامب فرض رسوماً على دول الاتحاد الأوروبي بنسبة 20%، والاتحاد رد بفرض رسوم على سلع أمريكية قيمتها 26 مليار دولار، ونعلم أن بريطانيا أعلنت أنها ستدرس الرد، لكنها تسعى إلى عقد اتفاق تجاري جديد مع الولايات المتحدة.
ونعلم أيضاً أن ترامب فرض على الصين رسوماً، بلغ مجملها 145%، فردت بكين بفرض رسوم تصاعدت تدريجياً إلى 125% وهو ما يعني أن الحرب التجارية العالمية قد بدأت بين أكبر قطبين.
نعود إلى السؤال الأساسي الذي بدأنا به، وهو: هل انتهت العولمة بالشكل الذي كنا نعرفه؟! أغلب الظن أن الإجابة هي نعم، لأن أمريكا التي بشرت بالعولمة، وحاربت من أجل فرضها وترسيخها، هي التي تقوم الآن بمحاربتها وطعنها في مقتل.
ومن المفارقات الصارخة، أن أمريكا قلعة الرأسمالية والمبشرة بالعولمة والاندماج الاقتصادي، هي التي تحارب العولمة الآن، في حين أن الصين التي لا يزال يحكمها حزب شيوعي، هي التي تدافع عن العولمة وقواعد التجارة العالمية الحرة!
أمريكا «زعيمة العالم الحر»، لم تعد تعترف بالاتفاقيات الجماعية، بل تفضل أن تعقد معاهدات واتفاقيات مع كل دولة على حدة.
هذا الكلام يعني أن إدارة ترامب تراهن على هذه الاتفاقيات المنفردة، وليست الجماعية. وقد رأينا دولاً كبرى تتحدث عن السعي إلى توقيع اتفاقيات تجارة منفردة، كما حدث مع الهند.
ترامب يراهن على أن دولاً كثيرة سترضخ لتهديداته، وتقلل من صادراتها، ما يعطي أفضلية للسلع الأمريكية، لكن لو أن كل الدول تصرفت بنفس الطريقة التي تصرفت بها الصين وكندا والاتحاد الأوروبي، فلا يمكن استبعاد نشوب حرب تجارية عالمية طاحنة، ستدفع ثمنها العديد من الدول، خصوصاً النامية.
أيضاً لا يمكن استبعاد أن تؤدي قرارات ترامب إلى استنزاف المزيد من قوة الاقتصاد العالمي، الذي يعاني أساساً من ديون ضخمة، ويخشى من تأثيرات الصراعات الجيوسياسية، خصوصاً في أوكرانيا والشرق الأوسط.
بل إن الخبير الاقتصادي العالمي، تاكاهيدي كيوتشي، في معهد نومورا للأبحاث، يرى أن رسوم ترامب قد تؤدي إلى خطر تدمير نظام التجارة العالمي الذي قادته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، والتقدير العام، هو مزيد من ارتفاع الأسعار وإضعاف الطلب.
رأى متشائم آخر، أدلى به أنطونيو فاتاسي، الخبير الاقتصادي في كلية إنسياد لإدارة الأعمال في فرنسا، فهو يرى قرارات ترامب بمثابة انحراف للاقتصاد الأمريكي والعالمي نحو ما يمكن تسميته ركوداً عالمياً.
الخوف من شبح الركود، جاء على لسان العديد من الخبراء العالميين، والعديد من المنظمات الاقتصادية الدولية، بما فيها مؤسسات محسوبة على الولايات المتحدة تاريخياً. صحيح أن هناك دولاً كبرى ستخسر من قرارات ترامب، لكن المؤكد أن المواطن الأمريكي سيخسر أيضاً.
الأجيال الجديدة من الشباب، قد لا تعرف أن الولايات المتحدة هي التي أقامت النظام الاقتصادي العالمي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، على ثلاثة أسس، هي صندوق النقد، والبنك الدولي، على أن يعهد إلى مؤسسة دولية ثالثة بمسؤولية تنظيم التجارة العالمية، والعمل على تحريرها.
انعقدت مؤتمرات واتفاقيات، وتم الاتفاق على تأسيس ما عرف بالاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة، إلى أن تم تأسيس منظمة التجارة العالمية، لتسهيل التجارة بين الدول، عبر وضع القواعد التي تحكم التجارة الدولية، ومراجعتها وتنفيذها. وبدأت المنظمة عملها بصورة رسمية مطلع 1995، وفقاً لاتفاقية مراكش بـ 164 دولة، تمثل ما يزيد على 98% من التجارة العالمية، والناتج المحلي الإجمالي.
أحد الأهداف الأساسية للمنظمة، ومقرها جنيف في سويسرا، أنها تهدف إلى خفض أو إلغاء الرسوم الجمركية، وحصص التوريد والحواجز التجارية، وحل الخلافات المتعلقة بالتجارة.
وقد نجحت المنظمة بالفعل في تعزيز التجارة الدولية، وقللت من الحواجز التجارية، في تقدير البعض أن الولايات المتحدة تحمست لهذه الاتفاقية، حينما كانت تخدم أهدافها، لكن، وبما أن صعود الصين الاقتصادي لا يزال مستمراً، ويهدد عرش القيادة الأمريكية، فإن الولايات المتحدة، وفى ظل إدارة ترامب، التي تجاهر بسياسات انعزالية، قد انقلبت على كل ما حاربت من أجله، وبالتالي، فإن العولمة بالصورة التي كنا نعرفها منذ منتصف التسعينيات، قد انتهت، أو في طريقها للانتهاء، وأغلب الظن أن العالم سيدخل في اتفاقيات وتحالفات ثنائية، أو عبر مجموعات، مع عدم استبعاد حروب تجارية عالمية، قد يتحول بعضها إلى صراعات سياسية، وربما عسكرية.