محمد بن عيسى الكنعان
الولايات المتحدة الأمريكية تأسست من 13 مستعمرة بريطانية بناها مهاجرون إنجليز وأوروبيون بدايةً من القرن السابع عشر الميلادي وتحديدًا عام 1607م، بعدها تدفقت وفود المهاجرين من غرب أوروبا وشرقها، وآسيا، وحتى إفريقيا التي جاء أبناؤها في سفن العار أرقاء إلى العالم الجديد؛ لهذا لا يُنكر الأمريكان أن بلدهم هي بلد المهاجرين، وأن الهجرة شكّلت الركيزة الأساس بالكيان الأمريكي، حتى أن باب الهجرة لم يُغلق بشكل قانوني إلا في منتصف القرن العشرين خلال الحرب العالمية الثانية.
لكن السؤال هنا: هذه الهجرة الأوروبية التي تحولت إلى استيطان أمريكي بعد الاستقلال عن التاج البريطاني عام 1776م تحققت على حساب من؟
إجابة هذا السؤال التاريخي نجده اليوم بالواقع المعاصر في منطق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي فاجأ العالم بعد أيام من ولايته الرئاسية الثانية بتصريحه المثير للجدل حول امتلاك قطاع غزة وتهجير سكانه الفلسطينيين إلى مصر والأردن.
فمسألة انتزاع أرض وتشريد شعبها إلى دول أو أراضي مجاورة هي حالة متكررة في التاريخ الأمريكي، وجرت في سياق حروب ومذابح مروعة ارتكبها الكاوبوي الأمريكي خلال سنوات تأسيس الولايات المتحدة في إطار اتحاد فيدرالي.
إذًا الرئيس الأمريكي - وهو بالمناسبة من أب وأم مهاجرين ألماني وأسكتلندية - لم يأتِ بجديد أو يفجر مفاجأة، إنما هو يُعيد إنتاج المشهد التاريخي بلغة عصرية، وأدوات جديدة وعلى أرض مختلفة، وذلك عندما كان أسلافه يتحدثون بنفس المنطق مع زعماء قبائل سكان أمريكا الأصليين الذين تمت تسميتهم زورًا بـ(الهنود الحمر)، ثم جرت إبادتهم على مراحل تاريخية.
خلال تلك المراحل التاريخية المخضبة بلون الدم كان الترحيل القسري (التهجير) هو اللغة الحاضرة في منطق الرجل الأبيض، والتهجير في ذلك الوقت كان أشبه بالإبادة البطيئة للسكان الأصليين (الهنود الحمر)، كونها تقوم على تفريغ الأراضي من أهلها والاستيلاء عليها، ونقل السكان إلى أراضي أخرى ليست لهم ولا تصلح لحياتهم! وقد كان صاحب فكرة التهجير أو الترحيل القسري هو توماس جيفرسون كاتب إعلان استقلال أمريكا، الذي قال لجنوده عام 1812م ألا يضعوا أسلحتهم إلا بتهجير الهنود أو قتلهم، أما مهندسها الفعلي فهو الرئيس الأمريكي الخامس جيمس مونرو، الذي قدم مشروع التهجير للكونغرس عام 1825م، ويقضي بنقل السكان الأصليين (قبائل الهنود الحمر) من شرق نهر المسيسيبي إلى غربه بحكم الحاجة إلى توسع الولايات، وأيضًا لأن الهنود الحمر شعوب غير قابلة للتمدن (التحضر).
فكانت بداية مسلسل التهجير المروع بقبيلة التشوكتاو التي أجُبرت على التهجير عام 1830م، ثم قبيلة الكريك التي دخلت في حروب طاحنة مع الجيش الأمريكي حتى انقسمت القبيلة على نفسها بين المقاومة أو الرحيل وذلك عام 1832م، حتى القبائل التي تُعتبر متمدنة ولزعمائها علاقات مع الحكومة الأمريكية فإنها لم تسلم من التهجير مثل قبيلة الشيروكي، التي كانت تسكن جورجيا وكارولينا الشمالية؛ حيث تم ترحيلها قسريًا بقوة سلاح الجيش وتحت ظروف قاسية وأحوال جوية صعبة؛ فسميت رحلتها بـ(درب الدموع) عام 1838م.
كذلك الحال بالنسبة لقبيلة النافاجو التي تمت محاصرتها ثم تجويعها وترحيلها عام 1866م برحلة مريرة عُرفت بالتاريخ الأمريكي بـ(المسيرة الطويلة)، وقبيلة البونكا عام 1868م، وقبلهما قبيلة السيمينول في فلوريدا، وغيرها من قبائل عديدة من السكان الأصليين، تم تهجيرها من أراضيها إلى أراضي أخرى في الغرب الأمريكي، وليت حال بقي كذلك؛ فقد تم تهجيرها مرة أخرى إلى محميات هندية ومراكز اعتقالات بعد توسع الولايات الأمريكية غربًا.
هذه نماذج بشعة لا زالت حاضرة في الذاكرة البشرية، وهي تمثل نقاط معتمة بالتاريخ الأمريكي عن قضايا التهجير، التي كانت نابعة من عقلية إقصائية ونفس استعمارية، لا تريد السلام، ولا تهتم للتعاون بين الشعوب، هذه العقلية يتم استدعاؤها اليوم بنفس المنطق للتعامل مع ملف غزة المدمرة، دون الاعتبار لظروف المنطقة وأصحاب الحق، خاصةً أن إجابة الرئيس الأمريكي ترامب كانت واضحة؛ عندما سألته إحدى الصحفيات عن السلطة التي تخوله للاستيلاء على غزة وتهجير أهلها فأجاب: سلطة الولايات المتحدة الأمريكية. المفارقة أن الرئيس ترامب من مواليد مدينة نيويورك عام 1946م، وهي الأرض التي شهدت أولى حالات التهجير لقبيلة سينيكا من قبل المهاجرين الهولنديين عندما استولوا على جزيرة مانهاتن. بهذا المنطق فالمنطقة العربية مقبلة على كارثة - لا قدر الله - مالم يرتفع صوت العقل ويحضر الضمير.