: آخر تحديث

ترويض اللحظة

6
8
5

جمال الكشكي

بين هدنة وقف إطلاق النار التي بدأت يوم التاسع عشر من يناير الماضي، وبين تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة بشأن تطهير غزة، وتهجير أهلها، أجدني أتوقف أمام صورة للفلسطينيين، وهم عائدون إلى منازلهم بهذا الحجم والشغف والإقبال والقوة والرغبة في الوجود، هذه المشاهد البشرية المتدفقة ذكرتني بقصيدة الشاعر الكبير محمود درويش: (عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ, عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى فلسْطِين).

نعم الفلسطينيون يرغبون في إقامة وطن مستقل، وبالحق في تقرير مصيرهم، وقوانين دولية، وقوانين دولية إنسانية تحميهم من إبادات جماعية وجرائم وحشية.

هؤلاء يبحثون عن استعادة حقوقهم المشروعة بموجب قرارات عديدة بدءاً من قرار 181 الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، والخاص بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة كيانات، عربية، ويهودية، ثم القدس وبيت لحم، ثم القرار 194 الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، وكذلك القرارات الأخرى مثل 242 الداعي إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967.

إذا تأملنا كلمات العائدين من أطفال وشباب وشيوخ ونساء يتأكد للبشرية جمعاء أن هؤلاء يحملون على ظهورهم جبالاً رُسمت عليها دروب التهجير المستمرة عبر التاريخ وعبر حكومات ومراكز تفكير طاردت أشجار التين والزيتون، تحاول اقتلاع جذورها سواء في أرض فلسطين أم في كل أراضي العالم التي لجأوا إليها، هرباً من جحيم الإبادات الجماعية والجرائم الوحشية.

هؤلاء رفضوا كل أنواع التعويضات وفضّلوا العودة متمسكين بحقهم في إقامة وطن هم فيه أصل من أصول المكان، قبل عشرة آلاف سنة.

إن القضية الفلسطينية التي تنزف منذ ثمانية عقود هي مفتاح الاستقرار في المنطقة والإقليم والعالم، ومن دون إيقاف هذا النزيف وكتابة الدواء الناجع بعيداً عن الصراعات الدينية، فستظل خرائط العالم تهتز.

وسيظل التاريخ يستدعي طموحات وأوهام بسط النفوذ، وسوف يستمر ملف التهجير جاهزاً على طاولة المفكرين الصهاينة وبخاصة ملف المحلل العسكري والأمني، اللواء جيورا إيلاند، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق، الذي وضع منذ بداية القرن الحادي والعشرين مشروعاً متكاملاً للتهجير أمام الدولة الإسرائيلية، والدولة الأمريكية، وظهر هذا المشروع للرأي العام في نهاية عام 2008.

لم يتوقف التلويح بمشروع التهجير عبر أزمنة عديدة بما فيها حرب السابع من أكتوبر عام 2023، ولكن بعد نحو 16 شهراً من ويلات الحرب، دخلت القضية الفلسطينية مرحلة جديدة.

هي هدنة وقف إطلاق النار، التي تتم على ثلاث مراحل، أراها فرصة مهمة وكاشفة لما خلف الصدور، وأن المراحل الثلاث بمثابة مسار يجب دعمه بقوة من قبل كل الأطراف الفاعلة في القضية الفلسطينية، بل من جميع مؤسسات المجتمع الدولي، بما يفضي في نهاية المراحل الثلاث إلى وقف شامل لإطلاق النار.

والتركيز في إعادة إعمار قطاع غزة الذي بات عنوانه الدمار والخراب، وأن تكلفة إعماره تتجاوز 80 مليار دولار، فضلاً عن الإعمار الإنساني والمعنوي الذي يتعلق بالفلسطينيين أنفسهم، وهو الإعمار الذي لا يُقدر بأموال.

وسط هذه الخطوط المتشابكة والحذر اليقظ، فإن ثمة سؤالاً يطرح نفسه الآن بقوة: ما المطلوب في تلك اللحظة لضمان وقف النزيف الفلسطيني منذ ثمانية عقود؟ وكيف يمكن تحويل هذه المحنة إلى فرصة يمكن البناء عليها؟

حقيقة، أتذكر الآن ما كتبه المفكر المصري الشهير فوزي منصور لحظة يأس ذات مرة قائلاً: «العرب لم يخرجوا من التاريخ».. نعم نحن في أمس الحاجة إلى ترويض اللحظة التي تحتاج إلى خريطة عربية..عربية موحدة ومتماسكة سياسياً واقتصادياً.

وعلى قلب رجل واحد، في المنطقة والإقليم والعالم، ليس هذا الطرح من باب الرفاهية السياسية، فالقضية الفلسطينية هي أم القضايا العربية، وحلها هو مفتاح الاستقرار، بل مفتاح مواجهة الأحلام التوسعية لخرائط عديدة باتت تستيقظ الآن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد