***
لماذا نجحت دولة أجنبية في التحكّم بمصير أربع من دولنا، وجعلها تدور في محورها وتأتمر بأمرها؟
لماذا نجحت إسرائيل، ولأول مرة في تاريخ الحروب، إن جاز إطلاق صفة الحرب على ما حدث في الأيام الماضية، في التنكيل بكل قيادة «حزب الله»، وتدمير أغلبية ترسانته الضخمة، وقتل المئات من كوادره، وتشريد مليون من اتباعه، من دون أن يسقط لهم جندي واحد قتيلاً، حتى كتابة المقال؟
لماذا اخترقت مخابرات إسرائيل حتى مخادع قياديي الميليشيات، التي تعاديها، ونجحت في اغتيال كل عناصرها الفعالة في إيران ولبنان والعراق وسوريا وغيرها؟
لماذا فشلت كل أجهزة مخابرات الدول العربية، التي بإمكانها سماع دبيب النملة، في اختراق المجتمع الصهيوني، وتجنيد ولو فرد واحد لمصلحتها، بينما يوجد بيننا المئات ممن على استعداد للعمل لحسابهم؟
لماذا نجد عدداً كبيراً من المثقفين اليهود يعادون سياسات بلادهم منذ عقود، وبقوة، ويتهمونها بأخطر التهم، مع هذا لم يصب أي منهم تقريباً بخدش. بينما لا تستطيع شعوب كاملة في أغلب الدول العربية، أن تنبس بكلمة بحق «رئيس ميليشيا»، وكثيراً ما رأينا، علناً ومن دون خجل، كيف عُذّب وقُتل كل من تجرّأ وتكلّم وانتقد؟
لماذا لم نتعلّم من الصهاينة شيئاً إيجابياً واحداً، على مدى أكثر من مئة عام، مع وجود الكثير منها؟ بل وكررنا ارتكاب الأخطاء نفسها معهم، المرة تلو الأخرى.
لماذا فشلت كل دولنا في أن تخلق جامعة بمستوى الجامعة العبرية، التي كانت أول ما أقامه صهاينة أوروبا عام 1920؟
ولماذا فشلنا، خلال الفترة نفسها، ليس فقط في بناء مدرسة ثانوية مميزة، بل قمنا بتخريب أفضل جامعة في الشرق الأوسط، وترهيب أساتذتها الأجانب، واختطافهم، واستخدامهم كرهائن، مقابل إفراج أمريكا عن ودائع «سادتنا» لديها؟
الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، سهل سردها، صعب فهمها، والأصعب تعلّم شيء منها. فنحن نكرر منذ قرون المثل الدارج «أعطِ الخباز خبزه.. إلخ»، ومع هذا قمنا بتسليم خبزنا ومصيرنا لرجال دين ليتحكموا بنا، مباشرة أو من وراء الستار، مع أن دورهم يجب ألا يتخطى عتبة المسجد! فعصر الدولة الحديثة لا يعرف السيف والرأي العقائدي، والفكر الماضوي، والدعاء، بل العلم والتطور وملاحقة المستجدات، والذكاء الاصطناعي، وارتياد الفضاء، وليس خيار البقاء في الخنادق! ولم نكتفِ بتسليم أمورنا لرجل الدين، بل جعلنا له هالة ومكانة لا يحلم بهما، وهو المكبّل تماماً بما تعلمه في أزهره أو حوزته، والذي يمكن أن ينفعه في وظيفته، لكن ليس في إدارة دولة، بكل تعقيداتها. فكيف لجهة حاربت إسرائيل عشرات المرات، ولم تدرك يوماً أنها تحارب أمريكا، بكل ثقلها المادي والتقني والعسكري، ومع هذا تستمر بالتهديد، وأن بيت العدو أوهن من بيت العنكبوت، والتهديد بمحو مدنها، وهذا ما تكره إسرائيل سماعه، وما يدفعها أكثر للانتقام منا، وتعزيز قدراتها العسكرية والمادية والعلمية.
لقد هُزمنا عسكرياً وأخلاقياً وعلمياً، بل وفي كل ميدان، ولم تفكر جهة في أن تتساءل عن السبب، وكيف الخروج من هذا الوضع المأساوي؟ ولِمَ علينا التوقف عن «تأليه» الطغاة بيننا، كما فعلنا، ولا نزال؟!
نكرر بأننا لم نتعلم من «كل» تجاربنا مع العدو، ولا من أخطائنا، ولم نعطِ العلم يوماً أهمية، وسلمنا أنفسنا للقدر، لعله ينقذنا، ونتيجة ذلك ماثلة أمامنا. فشراء الجاسوس بيننا سهل، لأن الإنسان عندنا يعيش، غالباً، بلا كرامة، ويموت بلا كرامة، وليس لروح الإنسان أهمية في حساباتنا، فما أكثر المرات التي أفرج فيها العدو عن مئات من أسرانا لديه، مقابل إطلاق سراح جندي لدينا، أو حتى تسليمهم رفات مدني!
ولو كنا مكانهم لطالبناهم، غالباً، بالاحتفاظ بالأسرى، وربما عرضنا عليهم المزيد منهم. فمتى اكترثنا أصلاً بموت الآلاف من جنودنا في أية معركة، فالروح لا كرامة لها، غالباً، وهم ليسوا جبناء، كما نميل لتصويرهم، بل فقط أكثر فطنة وذكاء منا. ولأنهم يعيشون بكرامة، ويعلمون أن الدولة ستدافع عنهم بكل قواها، فهم على غير استعداد لخيانتها. فقد أرسل صدام ربع مليون جندي للكويت لاحتلالها، وكانوا جميعاً تقريباً مثيرين للرثاء، حيث لم تسلمهم قيادتهم لا قنينة ماء، ولا حتى كسرة خبز، ووجدناهم في أول يوم من الغزو يطرقون أبواب بيوتنا يستجدون الطعام، ثم يصبح بعدها صدام «رمز» كرامة الأمة وبطلها، مع أنه ضحّى بأرواح الملايين من شعبه من دون أن يذرف دمعة، ولو كذباً!
وعندما نرى ما يحمله الجندي الإسرائيلي من تجهيزات نعرف الفارق، وما تعنيه الكرامة، التي هي حق من حقوق الإنسان، وتأتي مرادفة للحرية والعدالة، ولا يمكن معرفة أهميتها إلا بالعلم. لذا سعى الطغاة، عبر التاريخ، إلى إبقاء شعوبهم على جهلها.
أحمد الصراف