وفقاً لرؤية الدكتور خالد الرديعان، فإن العقل المسلم في هذا العصر، مهموم بعالم الغيب بدل العالم المشهود. والدكتور الرديعان عالم اجتماع وأستاذ جامعي بارز.
ينصرف هذا الرأي إلى صورتين: الأولى: تجنّب العقل للتفكير في الدين، لأنه أمر الله الذي لا يمكن للعقل الإنساني أن يدرك أسراره. والثانية: هي الاعتقاد بأن الغيب يساوي الجهل، بمعنى أن مشيئة الله اقتضت بقاء الإنسان جاهلاً بجانب من الكون والحياة، رغم تكليفه بقبول ما يقال عن ذلك المجهول.
والذي أرى أن هذا الفهم، على كلا الوجهين، يقود لإقصاء العقل وجعل الدين قريناً للجهل والسذاجة، حتى وإن تمظهر في ثياب القوة والعلو، وحتى لو تصنع التواضع واللين.
فيما يخص الصورة الأولى، فإنه لا يمكن للدين أن يبقى خارج نطاق التفكير، لسببين واضحين؛ أولهما أن القرآن الكريم صرّح تكراراً بأن خطابه موجه لأولي الألباب، لقوم يتفكرون، لقوم يعقلون، إلخ. فلا يمكن أن يوجه الخطاب للعقلاء والمتفكرين، ثم يدعوهم لإقصاء عقولهم عن الموضوع. أما السبب الثاني فإن الإيمان لا يصح إلا مع الاختيار، إذ «لا إكراه في الدين». فكيف يختار الإنسان إن لم يكن ثمة بدائل يفكر فيها، وينظر في الأصلح من بينها. هذا تفكير في أساس الدين وجوهره وقضاياه الكبرى، وليس في حواشيه.
وفيما يخص الصورة الثانية، فإن الربط بين الغيب والجهل، أدى لفتح الباب أمام الخرافة والأسطورة، وسمح بالخلط بين الدين والفولكلور، على نحو يعرف الجميع أنه أثمر تشويه صورة الدين البسيطة النقية.
سوف أضرب مثالاً على هذا بمفهوم «الرزق» الذي ورد في القرآن كفضل من الله ورحمة، وأنه سبحانه «يرزق من يشاء بغير حساب». نعلم أن الله يدعو الناس للسعي في طلب الرزق، لكن جرى التشديد على أن السعي غير متصل بالنتيجة، بمعنى أنك قد تسعى ولا تكسب شيئاً وأن غيرك قد يأتيه الرزق وهو نائم. هذا التصوير الذي يحكي حالات استثنائية، عرض للناس كما لو أنه القاعدة في الرزق، وأن الله يفعل ما يشاء دونما سنة أو نظام أو مبرر يمكن للعقل إدراكه واستيعابه. مثل هذا التصوير الخاطئ فتح الباب أمام السحرة والدجالين ومدعي الاتصال بالجن والقوى الخفية، الذين يدعون القدرة على تغيير مقادير الناس والتحكم في حياتهم وأرزاقهم. بل إن بعضهم فتح متاجر علنية، وأطلق على نفسه لقب «شيخ» للتأكيد على الجانب الديني في الموضوع.
في اعتقادي أن الإيمان بالغيب لا يعني – إطلاقاً – القبول بالجهل. الإيمان بالغيب يعني أن تتيقن في أعماق نفسك بأن وراء العالم المشهود عوالم أخرى، لم تتعرف إليها، لأنك لا تملك الوسيلة اللازمة لإدراكها. هذا هو بالتحديد ما آمن به المخترعون والمكتشفون الذين سعوا وراء المجهولات، بعدما اقتنعوا في أعماقهم، بأن وراء حجاب المشهود ثمة شيء، لم يدركوا حقيقته ولا حجمه، لكنهم واثقون من وجوده وإمكانية بلوغه بطريقة ما. تخيل ماذا سيحصل لو أن توماس إديسون توقف عن محاولاته لإثبات إمكانية توليد الضوء، بعد فشل تجاربه الأولى والثانية والثالثة، فهل يا ترى كنا سننعم بالكهرباء؟ تخيل أن ويليس كارير لم يكترث حين شطح بخياله بعيداً، فتراءى له جهاز يبرد الهواء، تخيل أنه قال لنفسه: هذه خيالات غير مفيدة، وإنه لو كان ممكناً لفعله الناس من قبلي. لو قال كارير هذا لنفسه، هل كنا نجلس الآن في غرفنا المكيفة؟
كل كشف جديد، وكل اختراق مدهش، بدأ بالإيمان بالغيب، أي بوجود عوالم وفرص وراء جدران الواقع الذي يحيط بنا. ثم بالسعي في شق حجاب الغيب (بالعلم أو بغيره) حتى يدرك تلك العوالم. العقل ضروري للدين إذا كانت الدنيا ضرورية. هذا هو جوهر الموضوع.