إلى الآن ووفقاً للتصريحات المهمة العسكرية البحرية الأوروبية (أسبيدس)، أمس (الاثنين)، فإن النيران لا تزال مشتعلة في السفينة «سونيون» التي ترفع العلم اليوناني بعد هجوم الحوثيين، وعلى الرغم من تأكيدها على عدم وجود أي مؤشرات واضحة حتى الآن على تسرب نفطي، فإن هذا الحدث وما سبقه يعيد طرح أسئلة حالة السيولة الشديدة للتوترات في المنطقة، وإهمال المجتمع الدولي رغم كل المطالبات من دول الاعتدال، وفي مقدمتها السعودية على ضرورة الوصول إلى حل شامل في إطار رؤية كلية إزاء الملفات العالقة منها قضية فلسطين، والتغول الإيراني، وصعود الميليشيات، وعسكرة المنطقة في اليمن ولبنان والعراق؛ وهو ما يعني دخول المنطقة في أتون التعقيدات السيادية بسبب حالة التجاذب بين إسرائيل من جهة وإيران وحلفائها الذين يستثمرون سياسياً في ملف غزة ويلقون بأوراق الشعارات على طاولة محاولة التحشيد والتلويح بالرد واستغلال عامل الوقت في ظرف استثنائي برسم الانتظار للرئيس القادم للولايات المتحدة.
كل هذه الهجمات المتكررة وما يقابلها من المواقف الدولية تطرح حقيقة لا تقبل الشك، وهي أنه لا يمكن خلق حالة إجماع أمني في مسألة البحر الأحمر مع انقسام أخلاقي وسياسي حول العدوان على غزة، وتعميق حالة الانسداد لأي حل يحاول توسيع دائرة النظر وتحويل المقاربات من ردود الأفعال إلى الاستراتيجيات والحلول البعيدة الأمد والتي تراعي المآلات وليس النتائج السريعة، وبإزاء هذه الحقيقة تقف أختها وهي أن أي استراتيجيات الحل لمعضلة أمن البحر الأحمر شأن إقليمي بالدرجة الأولى لا يمكن إلا أن تلعب الدول المعنية به وفي مقدمتها السعودية وباقي الدولة المطلة دوراً أساسياً في أي مقاربة للحل.
هذه الفوضى التي يمعن الكيان الإسرائيلي بوحشيته تجاه الفلسطينيين في تعميقها وتغذيها، هي حالة الإهمال الدولية وتراجع دور الاتحاد الأوروبي وارتباك الإدارة الأميركية وخذلانها للأصوات العاقلة في المنطقة وإعادة إنتاج ثقافة الميليشيات كواقع سياسي مؤرق للأمن القومي لدول المنطقة وعلى رأسها دول الخليج، وبسبب عدم الضغط الحقيقي على تل أبيب لوقف العدوان والحرب ستتلبس الميليشيات بفعل الهجمات على البحر الأحمر قناع اللاعب السياسي ولو بتدمير الداخل اليمني في حالة متزامنة مع الهجمات التي تأتي على حساب الداخل اليمني، كما ستساهم في التسويق لشعارات عسكرة المنطقة والحلول التدميرية بحيث تستحيل الميليشيات والتنظيمات المسلحة المرفوضة والمقوضة للاستقرار أدواتَ ضغطٍ سياسية على المجتمع الدولي وكيانات مهددة لاستقرار الدول والتلويح بنذر الحرب التي تقترب كلما فشلت المفاوضات بإيقاف الحرب أولاً ثم بصيغ توافقية تراعي السياق الأكبر في الشرق الأوسط.
العواقب المجتمعية في حواضن الميليشيا في الدول المرهونة لإرادة طهران خطرة وطويلة الأمد، حيث الوقوع في أحضان الميليشيا وشعاراتها يعني باختصار تسيّد طرق الفوضى والإكراه السياسي الذي تمارسه الميليشيات على جموع الشعب الذين يتوقون لحياة أفضل، ومن يطالع تقارير المنظمات الحقوقية والتحقيقات الاستقصائية عن تعطل المدارس ونمو حالات التجنيد للأطفال والمراهقين في البيئات الحاضة للميليشيات وثقافتها، سيدرك أن الموضوع يتجاوز استهداف سفينة أو إطلاق مسيّرة.
الأكيد أن المنطقة اليوم تعيش حالة فراغ سياسي كبير، وتتحمل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الجزء الأكبر من المسؤولية؛ نظراً لما تملكه من قدرة على التأثير وحشد قرار سياسي دولي، كما أن اللعب بمكيالين فيما يخص مسألة مساندة إسرائيل بالمطلق والتلكؤ في الضغط عليها وإهمال عواقب تفشي خطاب التطرف والعنف وكل الحزمة الدعائية للميليشيات وشعاراتها إلى الحد الذي نكاد نعيش معه «ربيع الميليشيات»، وسيزيد الطين بلة صعود حالة عودة تنظيم «داعش» لاستغلال الفراغ والنشاط في مناطق التوتر والتي هي أيضاً محل تحذيرات الكثير من مراكز الدراسات والتقارير البحثية وهي المعادل أيضاً لحالة الاستثمار في «المأساة» باستغلال حالة الملهاة من قِبل الدول الكبرى ومن دون فعل شيء سوى الشعارات فحسب.
الحفاظ على مكون الدولة مهمة صعبة وتحتاج إلى تفهم ودعم دوليين، وفي الوقت نفسه في حاجة إلى فهم المكونات السياسية، لا سيما الأطراف السياسية الفاعلة في الدول المتوترة والخطاب الإعلامي العربي الذي يقع أحياناً في فخ نصرة القضية الفلسطينية من خلال الترويج لثقافة الميليشيات وانتصاراتها الوهمية، كما يرسل رسائل خاطئة للجمهور المتلقي في قراءة دقيقة للواقع، حيث إنها لا تعي أنها الضحية الأولى في حال انهيار الدولة وسقوطها في قبضة الميليشيات المسلحة.
ما تحتاج إليه دول الخليج اليوم هو تحويل أمنها القومي المرتبط بتطوير القطاعات الأمنية والدفاعية للوصول إلى «استراتيجيات الأمن المستدام» المسنود بخطاب إعلامي وثقافي يحاول المشي بخطوات الوعي في حقل ألغام التطرف!