بينما يعيش الشرق الأوسط دوامة الرد والرد المضاد بين إيران وأذرعها والكيان الصهيوني، ينصرف الانتباه عن مسارات التفكك الفاعلة في المنطقة، منها المسار اللبناني، وهي مسارات منذرة بالتفاقم أياً كانت نتائج الحرب.
المرة الوحيدة التي ورد فيها اسم لبنان بصيغة الجمع كانت حين هتف الشاعر الفرنسي الكبير أرتور ريمبو في كتابه «إشراقات»، الصادر عام 1886: «يا لبنانات الحلم»! ومع أن اسم لبنان انتقل للمرة الأولى من الجغرافيا إلى السياسة عام 1861 مع ظهور «متصرفية جبل لبنان»، فريمبو لم يكن يقصد لبنان السياسي بل لبنان الجغرافي، جبل لبنان، رمز الجمال الأرضي في المخيلة البشرية طوال آلاف السنين، من ملحمة غلغامش السومرية - البابلية، إلى النصوص التوراتية، إلى النصوص الإسلامية، إلى المئات من كتب الرحّالة الأوروبيين إلى الشرق من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين، من بينهم لامارتين وفلوبير ونيرفال والكثير سواهم. ويذكر ريمبو لبنان بصيغة الجمع لأن صيغة المفرد لا تفي بالتعبير عن إيحاءات هذا الجبل الملهم. تُرى ماذا كسب لبنان، وماذا خسر من انتقاله، أواسط القرن التاسع عشر، من الجغرافي إلى السياسي؟ سؤال كبير لسنا في صدد الإجابة الآن عنه.
من المؤثر حقاً أن الكثير من اللبنانيين اليوم، وسط الضياع الفكري والشعوري الكبير الذي هم فيه، يتصوّرون بلادهم موحّدة، ويتحدّثون عنها كذلك، بينما هي مقسّمة. فحركة التفكك الفاعلة في سوريا والعراق واليمن ولبنان وأنحاء أخرى، تبدو جلية المعالم في «بلاد الأرز». ثمة انفصال كبير في أشكال الحياة والتفكير بين «العاصمتين»، الضاحية الجنوبية والأشرفية، عزّزه وكرّسه انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020، الذي أرسى خطاً وجدانياً فاصلاً بينهما يصعب تخطيه. فالانفجار الرهيب يبدو من جهة حدثاً تم تجاوزه في توالي الأحداث، ومن الجهة الأخرى هو أهم فاجعة في تاريخ «لبنان الكبير» كجرح جماعي بلا عدالة ولا علاج. فكيف توحيد الوجدانين والذاكرتين؟
ووراء الأشرفية والضاحية، ثمة لبنانان مختلفان، ظهّرتهما الحرب والصيف. لبنان حرب «الإسناد على طريق القدس» جنوباً وشرقاً، ولبنان المهرجانات الصيفية العامرة وسطاً وشمالاً وغرباً. نحو خمسين مهرجاناً واحتفالاً فنياً، من شاطئ بيروت إلى جونية وجبيل والبترون وزحلة وأهمج وأهدن والقبيات وسواها.
وفي موازاة المنطق السائد في دولة «حزب الله» وطروحاته الآيديولوجية والدينية في خوض حرب «الإسناد على طريق القدس»، يقوم في الضفة الأخرى من «لبنان الكبير» منطق آخر مضاد، لا ينفي كون إسرائيل هي المشكلة الكبرى في المنطقة. لكن مهمة تحرير القدس وفلسطين، في نظره، ليست من مسؤولية لبنان وحده، الصغير المساحة الذي لا يتجاوز عدد سكانه 5 ملايين نسمة، بينما دول الطوق، مصر وسوريا والأردن، غير المندرجة في القتال، تملك مساحات شاسعة وقوة بشرية من 150 مليون نسمة. ووراءها عشرات الدول والشعوب والأمم المتبنية قضية فلسطين. ومثلما هناك «القضية الفلسطينية»، هناك «القضية اللبنانية». وأن لبنان على مرّ الزمن دفع أثماناً باهظة في موضوع فلسطين، لم تدفعها بلاد أخرى. وأن اتفاق هدنة 1949 بين لبنان وإسرائيل، كان مطبّقاً من الجانبين حتى منتصف الستينات، حين دخلت المقاومة الفلسطينية المسلّحة لبنان من نافذة الحريات المتوافرة فيه، بينما منعتها الأنظمة الأمنية العربية بقسوة من الاقتراب منها. وما لبث أن تطوّر الأمر وفرض عبد الناصر وعرفات على لبنان «اتفاق القاهرة»، فبات لحركة فتح «أرضها» في الجنوب اللبناني لمواجهة إسرائيل. ثم برز شعار «طريق القدس تمرّ في جونية» الذي قاد إلى حروب 1975 وما جرّته من ويلات لم تنتهِ بعد. ومع الثورة الخمينية، أضحى لبنان محوراً أساسياً في مخطط التوسع الاستراتيجي الإيراني في المنطقة، إذ بذلت طهران على مدى 46 عاماً جهوداً ضخمة، مالية وتنظيمية وعسكرية وآيديولوجية، كي تقوم في لبنان دولة «حزب الله»، التي أوصلت المحور الإيراني إلى حدود فلسطين وإلى البحر المتوسط. ومثلما كانت «طريق القدس تمرّ في جونية»، باتت تمرّ في بيروت والجنوب. ويرى أهل المنطق الآخر أن المواجهة المنطلقة من لبنان لا تهدف في عمقها لمؤازرة قضية فلسطين، ولا القضية اللبنانية، بل لنصرة الاستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط. ولبنان المنهار، بفعل تقسيمه الفعلي وفساد حاكميه وحشود اللاجئين إليه، لن يجني منها إلا المزيد من الخراب... لبنانان ومنطقان متباعدان، يصعب أن تصلح بينهما مسارات المنطقة.