في ظل أجواء الاضطراب الكبير الذي تعيشه المنطقة؛ عُقد في القاهرة مؤتمر الاستثمار المصري – الأوروبي بين 29 و30 يونيو/ حزيران الماضي، افتتحه الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيسة المفوضية الأوروبية، اورسولا فون دير لاين، وحضره حشد من الشخصيات الأوروبية والمصرية من أعلى المستويات، بينهم ممثلون لألف شركة ومؤسسة من مختلف دول القارة، تهتم بكل جوانب التعاون بين الفريقين.
وبينما ركّز الرئيس السيسي في كلمة الافتتاح على ضرورة وقف إطلاق النار في غزة، وعلى أهمية الساحة المصرية كموقع استثمار مثالي للشركات الأوروبية، لكونها غنية باليد العاملة المختصة، وفيها مهارات فنية عالية الكفاءة، وهي سوق واسع يعيش فيه ما يزيد على 120 مليون مستهلك؛ ركزت فون دير لاين على أهمية استقرار مصر، لكونه يؤمّن استقراراً للمنطقة، ويدعم الرخاء في أوروبا. وقالت ان الاتحاد الأوروبي سيقف إلى جانب القاهرة بكل قوة، لتحقيق الأهداف المشتركة.
يحمل المؤتمر رسائل، سياسية وأمنية واقتصادية، واضحة. وهو جاء بعد ثلاثة أشهر على توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين الفريقين. ولكل من الجهتين حسابات مهمة تدفعهما إلى تطوير العلاقات بهذا الشكل الواسع الذي حصل، حيث بلغت قيمة العقود الاستثمارية التي تمّ توقيعها خلال المؤتمر ما يقارب 67 مليار يورو، منها 49 ملياراً مع شركات أوروبية، و18 ملياراً مع مؤسسات وشركات أخرى تعمل من ضمن الأهداف التي تخدم تطوير العلاقات التجارية بين مصر، ودول الاتحاد.
الحسابات المصرية تعطي أولوية لأهمية إدخال عملات صعبة تحتاج إليها الأسواق المصرية التي عاشت ظروفاً مقلقة، خلال الأشهر الماضية، بسبب الحروب الدائرة في غزة، وفي أوكرانيا، ولأسباب أخرى. بينما يتطلع الاتحاد الأوروبي إلى تأمين حضور سياسي فاعل في المنطقة العربية، لكونها الأهم على المستوى العالمي كملتقى للقارات الثلاث، ولأن الاستثمارات الأوروبية في مصر مضمونة النتائج، والشعب أيضاً يرحب باحتضان هذه الاستثمارات الأوروبية، وليس الحكومة فقط، على حد ما قال الرئيس السيسي في خطابه أمام المؤتمرين.
المصالح الاستراتيجية التي دفعت الاتحاد الأوروبي نحو تعزيز العلاقة مع مصر كبيرة، ومتنوعة، نظراً لما لمصر من مكانة جيوسياسية في المنطقة، ولكونها شريكاً تجارياً مهماً للاتحاد، ولأن تأثيراتها في شمال إفريقيا ما زالت وازنة، رغم بعض التراجع الذي فرضته الأحداث الأخيرة في ليبيا، وفي تونس، وفي السودان. وهاجس الهجرة الإفريقية إلى الدول الأوروبية يبقى هماً كبيراً يؤرّق الاتحاد، ومصر قد تلعب دوراً في الحد من هذا النزوح، من خلال ضبط حدودها الواسعة مع ليبيا والسودان، ومن خلال المراقبة المشددة للشواطئ المصرية الطويلة على البحر الأبيض المتوسط.
ويَعرف الاتحاد الأوروبي أن الاعتدال المصري أبقى للقارة من التطرّف، كما يدرك هذا الاتحاد أن سياسة الدول الإقليمية الكبرى في المنطقة العربية أسهمت في تأجيج مناخات الاضطراب، أكثر مما أسهمت في توفير الهدوء والاستقرار.
ومن مصلحة الاتحاد الأوروبي أن تكون المنطقة القريبة من حدوده أكثر استقراراً، خصوصاً مصر، حيث اعتبرت رئيسة المفوضية الأوروبية في كلمتها أمام المؤتمر: «أن أمن مصر هو من أمن الاتحاد الأوروبي». بينما المنافسة للدور الأوروبي تجري بوتيرة متسارعة من جهات صديقة، وغير صديقة، كما أن تراجع دور بعض الدول الأوروبية في أفريقيا أثّر سلباً في مكانة الاتحاد في القارة السمراء، وفرض تحدّيات أمنية كبيرة على دول الاتحاد، ومنافسة تجارية وازنة، لاسيما بعد أن دخلت روسيا والصين شريكين فاعلين لبعض الدول الإفريقية.
من الواضح أن الولايات المتحدة لا تُعير اهتماماً كبيراً للتنسيق مع دول الاتحاد الأوروبي في المنطقة العربية، وهي تفرض أجندتها على بعض الدول الأوروبية، من دون أن تلتزم بما فيه مصلحة للأوروبيين. وقد شكّلت المأساة التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزة والضّفة الغربية خلال الأشهر الأخيرة؛ امتحاناً واضحاً لهذه العلاقة. وبينما التزمت إدارة الرئيس جو بايدن بكل ما يوفر دعماً للعدوان الإسرائيلي، حاولت بعض الدول الأوروبية أن تتمايز عنها، وفرض بعض التوازن في العلاقات بين اسرائيل والأطراف العربية، لكن من دون جدوى، بحيث بقيت الأجندة الأمريكية المساندة لإسرائيل هي المُعتمدة، ما أدى إلى تحرّر بعض الدول الأوروبية من هذه المقيدات الجائرة، واعترفت بالكامل بالدولة الفلسطينية، خصوصاً إسبانيا، والنرويج، وإيرلندا، ما رفع عدد المعترفين بهذه الدولة الى 12 دولة أوروبية، من أصل 27 دولة مجموع أعضاء الاتحاد.
الحكومة المصرية التي احتفلت إبان انعقاد المؤتمر الاستثماري بمرور 11 عاماً على ثورة 30 يونيو/ حزيران التي أوصلت الرئيس السيسي الى الحكم؛ ترى في المبادرة الأوروبية وسيلة ناجعة للخروج من الركود والتضخّم الذي عانى منه الاقتصاد المصري خلال السنة المنصرمة. وبالفعل، فقد أمدّ الاتحاد الأوروبي مصر بمبلغ 7,4 مليار يورو بشكل فوري، وعلى 4 دفعات، لتوفير سيولة نقدية يحتاجها السوق المصري، لأن التضخم بلغ مستويات عالية، وتدهورت قيمة الجنيه المصري من جراء الأزمة.
نتائج مؤتمر الاستثمار المصري – الأوروبي المعلنة فاقت ما كان متوقعاً منه. لكن تبقى العبرة – كما دائماً - في التنفيذ.