انتهت الانتخابات النيابية البريطانية يوم الخميس الماضي، وجاءت نتائجها وفق توقعات استطلاعات الرأي العام. ووصل العماليون إلى السلطة بأغلبية برلمانية كبيرة، واستحقَّ المحافظون هزيمة غير مسبوقة. الخاسر الأكبر الثاني كان حزب «أسكوتلندا القومي». نتائج الانتخابات جاءت لتؤكد مؤكداً؛ وهو أن الأحزاب المنقسمة لا تربح انتخابات. وهي رسالة مفتوحة أيضاً إلى أميركا المنقسمة، وهذه ملاحظة أولى.
الملاحظة الثانية تقول إن الخسارة الانتخابية الثقيلة للقوميين الأسكوتلنديين المطالبين بالاستقلال، تؤكد أن حظوظهم في المطالبة وتحقيق استفتاء ثانٍ على الاستقلال قد تلاشت مع الريح. وليس من حقّهم تعليق الهزيمة على مشاجب الآخرين.
الملاحظة الثالثة أن الانتخابات النيابية في العادة تقتصر برامجها على الإشكالات المحلية؛ مثل الصحة والتعليم والهجرة غير القانونية والاقتصاد، أما التأثير السياسي الخارجية فبنسبة ضئيلة. لكن في الانتخابات الأخيرة تبيّن تأثير الموقف من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد السكان الفلسطينيين في قطاع غزّة.
تأثير أحداث غزّة بدأ قبل الانتخابات بانسحاب عدد من القيادات العمالية المحلية في مختلف المجالس البلدية، بل وفي مناصب مرموقة بحكومة الظل. وبعد الانتخابات تبيّن أن خمسة من وزراء حكومة الظل العمالية فقدوا مقاعدهم البرلمانية لصالح مرشحين مستقلين، دخلوا الانتخابات تحت مظلة غزة، وكانوا في السابق أعضاء في حزب «العمال»، وأنَّ وزيرين عماليين آخرين في حكومة الظل كادا يخسران مقعديهما، ومن ضمنهما وزير الصحة الجديد ويز سترينتغ. والأجدر بالإشارة أن أصوات حزب «العمال» تقلصت بنسبة 11 في المائة، بالدوائر الانتخابية التي يوجد بها ناخبون مسلمون بنسبة سكانية تصل إلى 10 في المائة. وهذا يفضي إلى استنتاج مفاده أن تطورات الأحداث في الشرق الأوسط، قد فرضت حضوراً استثنائياً في هذه الانتخابات. وتبيّن أن ما يجري في غزّة يمثل أهمية لدى نسبة من الناخبين. الأمر الذي يفضي إلى استنتاج آخر؛ وهو أن الجالية العربية والإسلامية في بريطانيا قد بدأت تنتبه لأهمية أصواتها انتخابياً.
الملاحظة الرابعة قد تكون مدعاة للاستغراب. فقد أبانت نتائج الانتخابات الأخيرة لدى المقارنة بما سبقها من انتخابات، أن حصة حزب «العمال» من الأصوات في عام 2017 تحت قيادة جيرمي كوربن تفوق حصة الأصوات التي حصل عليها الحزب عام 1997 تحت قيادة توني بلير، وعام 2024 تحت قيادة السير كير ستارمر، وهما العامان اللذان يُعلّمان لحصول الحزب على أكبر أغلبية برلمانية. في حين أن الحزب بانتخابات عام 2017 تحت قيادة جيرمي كوربن، خسر الانتخابات بحصوله على عدد 262 مقعداً فقط، وكان نصيبه من الأصوات يقترب من 13 مليون صوت. ومن ناحية أخرى، وفي الجهة المقابلة، تمكن المحافظون في الانتخابات نفسها عام 2017 تحت قيادة تيريزا ماي، من الحصول على أكبر عدد من الأصوات، وفازوا بالانتخابات، لكنهم خسروا أغلبيتهم البرلمانية. وتلك ليست سوى مفارقة واحدة من مفارقات النظام الانتخابي البريطاني. وبدأت هذه المفارقة أكثر وضوحاً في الانتخابات الأخيرة بحصول «العمال» على نسبة أصوات تقلُّ قليلاً عن 34 في المائة من الأصوات (أقل من 10 ملايين صوت)، وبالمقابل حصدوا 411 مقعداً برلمانياً. الأمر الذي أدى إلى ازدياد علو الأصوات المطالبة بإصلاح النظام الانتخابي، أو بالأحرى استبدال نظام التمثيل التناسبي المعمول به في كثير من دول العالم به، ليكون عدد المقاعد التي يحظى بها كل حزب متسقاً مع عدد الأصوات التي نالها في الانتخابات. وهذا بدوره يقود إلى الملاحظة الخامسة، وتتعلق بحزب «الديمقراطيين الأحرار» الذي تمكن للمرة الأولى منذ عام 1923 من الحصول على 71 مقعداً برلمانياً. ولكن بعدد أصوات أقل من حزب «الإصلاح الشعبوي». (حزب الإصلاح حصل على 600 ألف صوت أكثر من الأحرار الديمقراطيين. ولم يتمكنوا من الفوز بأكثر من 5 مقاعد برلمانية!).
الملاحظة السادسة نرصدها في الدور الذي لعبه رئيس حزب إصلاح المملكة المتحدة نايجل فاراج، بقراره تغيير رأيه ودخول الانتخابات مرشحاً عن حزبه.
ما اطلعت عليه من تقارير يشير إلى أن قرار رئيس الحكومة السابق ريشي سوناك بالتعجيل بموعد الانتخابات في شهر يوليو (تموز) كان بهدف شنّ هجوم مفاجئ على حزب «الإصلاح»، وعدم تمكينه من تنظيم كوادره وإعداد خططه الانتخابية. لكن النتائج جاءت معاكسة. حزب «الإصلاح» الشعبوي كان وراء الهزيمة المنكرة التي لحقت بـ«المحافظين»، واستطاع استقطاب أعداد كبيرة من ناخبيهم للتصويت لمرشحيه. ونجح نايجل فاراج ليس فقط في توجيه لطمة قاسية إلى حزب «المحافظين»، بل كذلك في دخول البرلمان نائباً عن حزبه، بعد فشله في ذلك 7 مرّات في السابق. وبالتالي، من الممكن القول إن الدورة البرلمانية الجديدة لن تكون خالية من الإثارة المسرحية، لأن فاراج ديماغوجي من الطراز الأول، ويجيد فن إدارة المعارك أمام كاميرات وسائل الإعلام.