عبدالحق عزوزي
أدعو القارئ الكريم لأن يتصور معي لحظة نشوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو يتابع منذ أكثر من سنة سلسلة لا متناهية من الفر والكر بين البيت الأبيض ووزارة العدل الأميركية، ومكتب التحقيقات الفيدرالية، وسلسلة الاتهامات والاستقالات والإقالات، وردود الفعل والتحليلات اليومية، التي تطبع المؤسسات الأميركية ووسائل إعلامها.
وإن صح هذا التدخل الروسي، فيجب أن يكتب له فصل جديد في كتاب «جينيس» للأرقام القياسية، ويسمى هذا الفصل ب«الاستراتيجية الناعمة المدمرة» طويلة الأمد، ويسند هذا النجاح لرجل ال«كي.جي.بي» السابق فلاديمير بوتين.
وإن صح التدخل الروسي، فيصح لكل مختص في العلاقات الدولية أن يكتب بأن روسيا في ظل البيئة الدولية المعقدة تظهر على شكل قوة لا يعلى عليها، تثق في نفسها وتستعمل في براهينها وتفسيراتها وتدخلاتها أساليب غير مكلفة، ولكنها باهظة الثمن على أعدائها، أي مقابل دول غربية تعتبرها روسيا دولاً عدوة يجب إحداث بلبلة مدوية داخل مؤسساتها، وتوجيه الانتخابات الرئاسية والتشريعية فيها..والبعض باستحضار ما يجري اليوم في أميركا يتحدث عن حرب باردة جديدة لمصلحة روسيا، لأنها تتفوق اليوم على المعسكر الأميركي في غياب تنبؤ مسبق لمثل هذا التدخل، وتستفيد من وجود فراغ استراتيجي في لعبة شطرنج الحرب الجديدة التي اخترعتها.
إن صح التدخل المخابراتي الروسي، فسيكتب المؤرخون الآلاف من الصفحات في المرحلة المقبلة لفهم الذكاء الروسي الذي جعل من الرئيس الأميركي يقذف جهازاً سيادياً مشهوراً عالمياً، وهو مكتب التحقيقات الفيدرالي أو مكتب التحقيق الاتحادي الذي يعرف اختصاراً )، FBIوهي وكالة حكومية تابعة لوزارة العدل الأميركية، وتعمل كوكالة استخبارات داخلية وقوة لتطبيق القانون في الدولة.ول FBI سلطة قضائية على أكثر من 200 جريمة فيدرالية.
وقد تأسست الوكالة عام 1908 تحت اسم مكتب التحقيقات، وتم تغييره إلى الاسم الحالي عام 1935. ويوجد مقر مكتب التحقيق الاتحادي في مبنى «جي ادغار هوفر» في واشنطن، ولهذا الجهاز 56 مكتب تحقيق مركزياً منتشرة في المدن البارزة في الولايات المتحدة، وأكثر من 350 مكتب تحقيق محلياً في المدن والمناطق الأقل أهمية، بالإضافة إلى 60 مكتب تحقيق دولياً في القنصليات والسفارات الأميركية حول العالم.
المذكرة الأخيرة التي تنتقد مكتب التحقيقات الفيدرالي، والتي كتبها «جمهوريو» الكونجرس ونشروها، والتي رفع عنها منذ أيام الرئيس الأميركي دونالد ترامب السرية، وإنْ كانت مؤقتاً لمصلحته، فإنها تضرب في نظر كل استراتيجي مسألة السيادة الأميركية، ومسألة الثقة التي يجب أن تبقى بين مؤسسات الدولة في دولة قوية بحجم الولايات المتحدة الأميركية...
ماذا تقول الوثيقة؟ - للحصول على الإذن القضائي، استندت وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالية إلى معلومات جمعها الجاسوس البريطاني السابق «كريستوفر ستيل»، وعمل الأخير في إطار مهمة موّلها الحزب «الديمقراطي» وفريق حملة هيلاري كلينتون، ما يظهر بوضوح وجود انحياز ضد ترامب.
- وقع طلب الحصول على إذن قاض للتنصت على المكالمات الهاتفية، أربعة مسؤولين كبار لم يذكروا عمداً دوافع «ستيل» السياسية، وهم مدير «إف.بي.آي» في حينها «جيمس كومي» ومعاونه السابق «أندرو ماكابي» والقائمة السابقة بأعمال وزير العدل «سالي ييتس»، والمسؤول الثاني الحالي في الوزارة «رود روزنشتاين».- «الملف» الذي جمعه «ستيل» يُشكل «جزءاً أساسياً» لرفع طلب التنصت إلى القاضي الفيدرالي.
- كان «ستيل» أيضاً أحد مصادر «إف.بي.آي»، لكن مصداقيته كانت موضع شكوك، إذ إنه كذب على الشرطة الفيدرالية حول اتصالاته، وكشف معلومات لوسائل الإعلام في انتهاك لقانون السرية في أوساط الاستخبارات.
كل هذه المعطيات يستغلها الرئيس الأميركي ترامب لمصلحت،ه حيث وجد نفسه منذ وصوله إلى البيت الأبيض بين سندان الاتهامات القضائية ومطرقة «الديمقراطيين»، التي لن تنتهي.
فأكد الرئيس الأميركي منذ أيام أن المذكرة التي لدى «إف.بي.آي» تبرئه من التحقيق الروسي الذي وصفه بأنه «اضطهاد». وكتب ترامب تغريدة لم يستخدم فيها صيغة المتكلم، وجاء فيها أن «المذكرة تبرئ تماماً» ترامب في التحقيق، ولكن الذي لا يكتب في مثل هذه التغريدات، وما يعرفه الاستراتيجيون والدبلوماسيون المحنكون هو الصفعة العاتية التي أتت من روسيا، والتي تركت آثاراً في السياسة الداخلية الأميركية، ومست كل الأجهزة الأميركية الثلاثة التنفيذية والقضائية والتشريعية، وهي الآثار التي لا يمكن أن تقوم بها حتى الحروب العسكرية الكلاسيكية.