: آخر تحديث

حرب تجارية عالمية ساخنة

4
3
4

طلال صالح بنان

الأسبوع الماضي حصلت فوضى في أسواق الأسهم والسندات أربكت حركة التجارة العالمية وسلاسل الإمداد، حتى كاد الأمر يخرج عن السيطرة لدرجة الاقتراب من حدوث انهيار مروع للأسواق العالمية.. واحتمال ضياع ثروات لدول وأفراد، يصعب استردادها، دعك من إنقاذها. في المقابل هناك من يجادل أن فوضى إرباك أسواق الأسهم العالمية كانت مفتعلة وهناك من كبار الرأسماليين من كسب مليارات الدولارات في ساعات، بسبب تضارب تصريحات أصحاب القرار في واشنطن حول فرض التعريفات والإعلان عن تعليقها.

الذي حدث: أن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، في ما أسماه يوم التحرير، وضع موضع التنفيذ القرارات، التي سبق وأقرها، تحت شعاري أمريكا أولاً.. ولتستعيد أمريكا عظمتها، من جديد. هدف الرئيس ترمب، كان ينصب، بصورة أساسية، على التخلص من العجز التجاري مع شركاء الولايات المتحدة الخارجيين، بالإضافة إلى التخلص من العجز في الميزانية الفيدرالية، بإحداث إجراءات صارمة ضد ما أسماه الهدر في النفقات، بهدف زيادة كفاءة وفاعلية مؤسسات الحكومة الفيدرالية، وذلك بإنشاء وزارة أو إدارة أسماها: إدارة رفع كفاءة الأجهزة الحكومية (DOGE)، بأقل تكلفة ممكنة، أوكَلَهَا لصديقه الملياردير (إيلون ماسك)... الأمر الذي قاد إلى تسريح عشرات الألوف من موظفي الحكومة، بل وإلغاء وزارات خدمية مهمة، مثل التعليم.

خارجياً: تتطلب استراتيجية الرئيس ترمب التعامل مع شركاء الولايات المتحدة التجاريين، لا فرق إن كانوا حلفاء أم أصدقاء.. خصوماً أم أعداء ومنافسين دوليين.. كانت عربته التي تُقِلُ رؤيته في استعادة هيمنة الولايات الكونية الرفيعة، اتباع سياسة حمائية صارمة وقاسية، بفرض تعريفات جمركية عالية على الواردات من الخارج.

بغض النظرعن الحقيقة القائمة التي أعدها الرئيس ترمب لتثبت، كما يجادل: كيف أن الولايات المتحدة تعرضت لغش وتدليس متعمدَين من قبل شركائها التجاريين، لما يقرب من ثمانية عقود، مما كبّد الولايات المتحدة الكثير من ثرواتها وأهدر الكثير من موارد البلاد، فشلت كل الإدارات السابقة في التنبه لذلك، سواء لجهل أم عن علم. الحل، من وجهة نظره: يكمن في العودة لسياسة ونهج العزلة، ومن ثَمّ فرض تعريفات جمركية على الواردات الأمريكية.

هنا الرئيس ترمب يتصرف كزعيم للعالم، يتوقع أن يأمر ليُطاع، ظاناً أن الولايات تتمتع بميزة تنافسية في حركة التجارة الدولية، لا يجاريها فيها أحدٌ. لكن، في حقيقة الأمر، سياسة الرئيس ترمب الحمائية هذه تقوم على فرضيتين خاطئتين. الأولى: هجومية، ترتكز على ثقة مفرطة في مكانة الولايات المتحدة الأممية، بوصفها الدولة الأعظم في النظام الدولي. الثانية: تَصَورّ أن العالم، عند فرضه للسياسة الحمائية، ليس أمامه، إلا أن يرفع الراية البيضاء، ويحج إلى البيت الأبيض، زرافات ووحداناً، راجين منه التفاوض بخنوع، لتلبية طلباته، مع التوسل بمراعاة مصالحهم التجارية! لم يكن الرئيس ترمب يتصور، لا في أحلام منامه ولا يقظتها، أن توجد دولة واحدة في العالم لا تمتثل لطلباته، وتتجرأ على تحدي سياسته الحمائية، وتعامله بالمثل، دعك من تصور أن ترد له الصاع صاعين.

الصين، قد تكون الدولة الكبرى، المنافسة للولايات المتحدة، التي وقفت بحسم في مواجهة سياسة الرئيس ترمب الحمائية، لتبادر في إظهار ليس فقط نديتها، بل أكثر وأخطر: في إظهار تحديها الواضح للنزال على ساحة السياسة الدولية، سواء على مستوى حركة التجارة العالمية، وربما أخطر من الناحية الاستراتيجية.

لم تتردد الصين في إظهار رد فعلها الفوري على استراتيجية الرئيس ترمب الحمائية بنفس العنف والثقة.. ما لبثت سبحة الفعل ورد الفعل تنفرط، حتى وصلت الحرب التجارية إلى مستوى الثلاث خانات رقمية. بينما العالم أخذ يترقب إلى أي مستوى سيصل إليه نزال التعريفات الجمركية هذا، بين واشنطن وبكين، مما أربك الأسواق العالمية.. وهدّد بانهيار اقتصاديات الكثير من دول العالم، ليس الفقيرة فحسب، بل الغنية والمتقدمة أيضاً.

لا نبالغ، إذا ما قلنا: إن من كسب الجولة الأولى من الحرب العالمية التجارية هي الصين، عندما عبرت عن استعدادها للمضي في رد فعلها الفوري لأي تصعيد أمريكي، في هذا المجال، دون أن يرجف لبكين جفن. وإن الرئيس ترمب، بتعليقه سلوكه التصعيدي، على مستوى العالم، في فرض سياسته الحمائية، لمدة ثلاثة أشهر، إنما هو دليل على عدم قدرته على مواصلة المسير في سياسته الحمائية العالمية، لأن آثارها السلبية تجاوزت حدود السوق العالمية، لتُضَار بها السوق ألأمريكية بتبعات تطور احتمالات التضخم.. وزيادة معدلات البطالة.. وتباطؤ النمو، وربما التوجه للكساد. هذا الواقع الأخير، الذي أجبر الرئيس على إعادة النظر في سياسته الحمائية ليستثني واردات بلاده من الصين، من سلع، مثل: الكمبيوترات والهواتف الذكية وأشباه الموصلات، مما دفع الصين لوقف التصعيد المتبادل، والإعلان عن تجاهل أي تصعيد مستقبلي في الحرب التجارية مع واشنطن.

يبقى السؤال: هل تزداد سخونة الحرب التجارية لتصل إلى مستويات متقدمة من العنف، إيذاناً بنشوب حرب عالمية ثالثة؟ لن تتطور الأمور تجاه هذا التصعيد الاستراتيجي، لكن الأكثر توقعاً: أن العالم سوف يتعرض، في الأمد القصير، لجولة جديدة من السياسات الحمائية، تطيح بالكثير من إنجازات المرحلة الماضية، التي سادت فيها قيم حرية التجارة والعولمة، وحرية انتقال رؤوس الأموال، وفقاً لآليات السوق، وليس لأهواء وغوايات السياسة الداعية للعزلة والتقوقع، ضمن حدود جغرافية الدولة القومية. حتى هذا الاحتمال الأخير يظل صعباً وبعيداً، لتستعيد حركة التجارة العالمية حريتها وعافيتها من جديد، وإن كان ببطء.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد