إيلاف من بيروت: بدأ الرئيس اللبناني جوزيف عون عهده بإعلان تشكيل حكومة جديدة برئاسة نواف سلام، في خطوة تُعد مفصلية في تاريخ لبنان السياسي. الحكومة التي سُمّيت "حكومة الإصلاح والإنقاذ"، جاءت كنتيجة مباشرة لمطالب محلية وضغوط دولية بضرورة إبعاد التشكيلة الوزارية عن النفوذ الحزبي التقليدي، حيث تم اختيار الوزراء بناءً على الكفاءة، الخبرة، السيرة الذاتية والسمعة الحسنة، في مسعى لاستعادة ثقة اللبنانيين والمجتمع الدولي في الدولة.
تتألف الحكومة الجديدة من 24 وزيراً، من دون أن تتضمن ما يُعرف بـ"الثلث المعطل"، الذي كان حجر عثرة في حكومات سابقة وأحد أسباب عرقلة اتخاذ القرارات المصيرية. هذه الخطوة تعكس رغبة واضحة في تشكيل فريق عمل متجانس قادر على إدارة الملفات الشائكة بعيداً عن الابتزاز السياسي. ومن بين الوزراء الجدد، برزت مشاركة خمس نساء، ما يعكس توجهاً لتعزيز دور المرأة في الحياة السياسية اللبنانية.
رغم الطابع غير الحزبي للتشكيلة، لم تخلُ الحكومة من أسماء سياسية سبق أن تولّت مناصب وزارية، خصوصاً في حكومات رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري ورئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة. ومن بين الأسماء البارزة التي عادت إلى المشهد الحكومي: غسان سلامة، طارق متري، وياسين جابر، وهي شخصيات معروفة بخبرتها في الشأن السياسي والإداري.
حل عقدة كادت تفجّر التشكيل
لم تكن ولادة الحكومة سهلة، فقد واجهت تعقيدات، أبرزها تسمية الوزير الشيعي الخامس. اقترح نواف سلام اسم لميا مبيض لتولّي وزارة التنمية الإدارية، لكن الثنائي الشيعي رفض هذا الاختيار، ما أدى إلى تأخير الاتفاق. وبعد مفاوضات مكثفة، تم التوافق على تعيين فادي مكي لهذا المنصب، ما ساعد في إزالة العقبة الأخيرة أمام إعلان الحكومة.
رئيس الوزراء المكلف نواف سلام وهو يدلي بتصريح للصحافة في القصر الرئاسي في بعبدا، شرق بيروت، لبنان، 8 فبراير 2025
أولويات الحكومة
أكد رئيس الحكومة نواف سلام أن حكومته ستعمل على إعادة الثقة بين الدولة والمواطنين، وبين لبنان والمجتمعين العربي والدولي. كما شدد على أن الأولويات ستكون تنفيذ اتفاق الطائف، والمضي قدماً في الإصلاحات المالية والاقتصادية، وهي شروط أساسية وضعها المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي لأي دعم اقتصادي للبنان.
في ظل الانهيار الاقتصادي الذي يعانيه لبنان، تواجه الحكومة تحديات جسيمة، أبرزها استقرار الليرة اللبنانية، إعادة هيكلة النظام المصرفي، ووضع حد للفساد المستشري. كما سيكون عليها العمل مع مجلس النواب لإقرار القوانين الإصلاحية التي من شأنها فتح الباب أمام المساعدات الخارجية وإنقاذ الاقتصاد من الانهيار الكامل.
ترحيب خليجي
لاقى إعلان تشكيل الحكومة ترحيباً واسعاً من مجلس التعاون الخليجي، الذي أشاد بهذه الخطوة واعتبرها إيجابية على طريق استعادة الاستقرار في لبنان. وأكد الأمين العام للمجلس جاسم البديوي أن تشكيل الحكومة يعكس إرادة القيادة اللبنانية في تجاوز الأزمات، داعياً إلى ضرورة تعزيز الجهود الوطنية والدولية لدعم لبنان في هذه المرحلة الحساسة.
وشدد البديوي على أن دول الخليج مستعدة للوقوف إلى جانب لبنان، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، بما يساهم في إعادة إعمار البلاد وتعزيز أمنها واستقرارها. لكنه لفت إلى أن المجتمع الدولي يراقب عن كثب مدى التزام الحكومة بالإصلاحات المطلوبة، ما يجعل نجاحها في تنفيذ هذه الخطوات شرطاً أساسياً للحصول على أي دعم خارجي.
الانطلاقة الثلاثاء
أعلنت رئاسة الجمهورية اللبنانية أن الحكومة ستعقد أول جلسة وزارية يوم الثلاثاء في قصر بعبدا، وذلك بعد التقاط الصورة التذكارية التي تسبق مباشرةً الاجتماع الأول. هذه الجلسة ستشكّل المحطة الأولى في مسيرة الحكومة، حيث سيتم خلالها تحديد الأولويات ووضع خارطة طريق لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
ورغم الأجواء الإيجابية التي رافقت تشكيل الحكومة، فإنها تقف أمام اختبار مصيري لا يحتمل التأجيل، إذ تواجه تحديات ضخمة تتطلب قرارات جريئة وسريعة لإنقاذ لبنان من أزماته المتفاقمة. وفي مقدمة هذه التحديات، تأتي الأزمة الاقتصادية التي أنهكت اللبنانيين وأوصلت البلاد إلى حافة الانهيار، مع تدهور العملة الوطنية وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، ما جعل الحياة اليومية عبئاً لا يُحتمل على المواطنين.
يضاف إلى ذلك ملف الإصلاحات المالية والإدارية، وهو الشرط الأساسي الذي يفرضه صندوق النقد الدولي وأي جهة مانحة قبل تقديم أي دعم مالي للبنان، ما يجعل الحكومة أمام ضرورة اتخاذ خطوات حاسمة في هذا الاتجاه.
كما يُشكل إعادة هيكلة القطاع المصرفي تحدياً بالغ الصعوبة، بعد الانهيار الكبير الذي شهده خلال السنوات الماضية، وهو ملف لا يمكن تأجيله نظراً لتأثيره المباشر على ثقة المستثمرين واللبنانيين أنفسهم بالنظام المالي في البلاد.
وإلى جانب هذه الأزمات الداخلية، تبرز أهمية تعزيز العلاقات الخارجية واستعادة ثقة المجتمعين العربي والدولي، خصوصاً دول الخليج، التي كانت تاريخياً الركيزة الأساسية لدعم لبنان اقتصادياً وسياسياً.
نجاح الحكومة في هذه المهمة سيكون العامل الحاسم في تحديد مستقبل البلاد، فإما أن تنجح في إعادة لبنان إلى مساره الصحيح، أو تبقى رهينة الفشل والتجاذبات السياسية التي أطاحت بحكومات سابقة.