إيلاف من دبي: بحلول عام 1984، كان هناك قرابة 856 ألف يهودي من يهود السفارديم والمزراحي (المشرقيين) يسكنون الدول العربية، وتركّزت غالبيتهم في دول المغرب العربي والعراق وسوريا ولبنان واليمن ليشهد المجتمع اليهودي السفريديمي أكبر موجة نزوح بعد عام 1948، لم تبقِ من هؤلاء السكان الأصليين سوى بضعة عشرات في معظم الدول العربية.
على الرّغم من سنوات القطيعة الكبيرة بين يهود الدول العربية ودولهم الأم، ظلّت الأجيال الجديدة من المهاجرين اليهود المشرقيين تحمل في ذاكرتها وفي عاداتها الكثير من السمات المشتركة مع نظرائها من المسلمين والمسيحيين في الدول العربية، خصوصًا في ما يتعلّق بالطعام والموسيقى والعادات والتقاليد في الاحتفالات.
جيمينا وجسر الثقافة
في عام 2002، قررت ساره ليفين أن تبدأ مشروعها منظمة "جيمينا" في سان فرانسيسكو الأميركية، بالتعاون مع لاجئين يهود من دول عربية كمصر وليبيا، أرادوا إحياء ثقافة مجتمعاتهم اليهودية التي تختلف بعاداتها وتقاليدها عن اليهود الغربيين "الأشكناز"، إضافة إلى رغبتهم في اخبار العالم بقصة لا يعرف تفاصيلها كثيرون، وهي قصة يهود الدول العربية.
ويطلق أسم "جيمينا" أختصاراً على الیهود الأصلیین في المنطقة، بما فيها الدول العربية وتركيا وإيران.
وتسعى منظمة "جيمينا" للتعريف بمأساة ما يقرب من مليون يهودي من السكان الأصليين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذين تعرضوا لتهجير جماعي من أوطانهم الأصلية في القرن العشرين. كما يسعى فريق المنظمة لمعالجة الفجوات القائمة في السرد التاريخي للمنطقة الخاصة بقصة معاناة وتشتت اليهود الشرقيين، إضافة إلى مساهماتهم الكثيرة في تعزيز الحضارة المحيطة بهم قبل ترحيلهم.
تقول ليفين، مؤسسة منظمة "جيمينا" ورئيستها التنفيذية، لـ"ايلاف" إنها اعتقدت دائمًا أن ثقافة يهود الدول العربية هي الجسر الثقافي الأمثل بين يهود دول العالم العربي والمجتمعات العربية المسلمة حيث يحمل اليهود السفارديم كل سمات الثقافة والتاريخ العربي كونهم يهود شرق أوسطيين.
ليس غريبًا
تضيف سارة، التي تعود أصولها الى يهود الدولة العثمانية، أن المجتمع اليهود السفارديم ليس غريباً عن الشرق الأوسط، فأجداد أجداد السفارديم ينتمون الى الدول العربية، وعاشوا فيها الغالبية العظمى من حياتهم، وظلوا فخورين بمشاركة ثقافتهم على أوسع نطاق.
تلفت سارة في حديثها لـ "إيلاف" الى تمكّن منظمة "جيمينا" من انتزاع اعتراف دولي بالتاريخ والثقافة الشرقية لليهود، بما في ذلك إقناع الحكومتين الإسرائيلية والأميركية بمنح ميزات واعتراف عريض باليهود السفارديم الذين كانت ثقافتهم دائماً مهددة بالاندثار أمام هيمنة ثقافة اليهود الأشكناز "الغربيين".
بمرور السنوات، نجحت "جيمينا" في استعراض أهم إنجازات يهود الدول العربية بعيداً عن أي توجّه سياسي مثل إسهامات يهود العراق في نشأة وتطوير الموسيقى العراقية المتفردة "المقام العراقي" الذي يعتبر واحدًا من أبرز أنواع الموسيقى الشرقية، من خلال إبراز الوجوه اليهودية التي أسهمت في صياغة هذا النسق الموسيقي الفريد، مثل الموسيقار صالح وداود الكويتي، وعازف القانون اليهودي العراقي يوسف زعرور الذي كان رئيساً لقسم الاذاعة العراقية في أربعينات القرن الماضي، وعمل على تطوير الموسيقى العراقية والتقى أهم نجوم العالم العربي لذلك الجيل، من محمد عبدالوهاب الى كوكب الشرق أم كلثوم، حيث عزف معهما على القانون في حفلاتهم بالعراق بصحبة قارئ المقام العراقي محمد القبانجي.
بحسب أرشيفات المؤتمر العالمي للموسيقى العربية في القاهرة، معظم أعضاء الجوقة التي مثلت العراق في المؤتمر كانوا من العازفين اليهود العراقيين بمصاحبة الفنان المسلم الوحيد قارئ المقام محمد القبانجي.
ريا وسكينة
مصر التي كانت إحدى الدول المسلمة التي فتحت أراضيها ليهود إسبانيا الهاربين من محاكم التفتيش اليهودية، منحت الآلاف من يهود إسبانيا وطناً أعطاهم حقوقاً متساوية ليسهم اليهود المصريين في صناعة السينما المصرية التي أبرزت نجوماً مسلمين ويهود ومسيحيين، من دون أن يعرف المتابع عن نجوم الشاشة المصرية سوى انتمائهم الوطني لمصر.
وعرفت الشاشة المصرية الكثير من الفنانين اليهود، مثل توجو مزراحي، ونجوى سالم، وراقية إبراهيم، وليلى مراد، إضافة الى شخصية فنية مصرية تعدّت شهرتها حدود مصر وعرفها كل المتابعين العرب كممثلة مصرية أتقنت أدوار الشر وهي "ريا" في رائعة صلاح أبو سيف "ريا وسكينة".
عرفت ريا فنياً في مصر باسم "نجمة إبراهيم"، إلا أن اسمها الحقيقي هو بوليني حيث ولدت لعائلة يهودية مصرية وبدأت عملها الفني مطربة حتى أتقنت التمثيل وقدّمت عددًا من الأعمال المسرحية والسينمائية كما اشتهرت بإقدامها على التبرع بكامل إيراداتها المسرحية لصالح الجيش المصري.
الأكل الشامي
"الأكل الشامي" ظل حاضراً على موائد يهود بلاد الشام بعد 120 سنة من مغادرة الشرق الأوسط.
يقول الحاخام ايلي عبادي، اللبناني سوري الأصل، وهو اليوم كبير حاخامات الجالية اليهودية الخليجية في الإمارات أن حياته في الإمارات أكّدت له مدى الارتباط والتشابه الكبير بين حياة اليهود والمسلمين حيث تكاد تكون الثقافتين الإسلامية واليهودية الأقرب على الإطلاق بالمقارنة مع الخلافات الثقافية والدينية بين المسيحيين من جهة واليهود والمسلمين من جهة أخرى.
يضيف عبادي أنه حتى اليوم وبعد مئة وعشرين سنة تقريباً من خروج يهود بيروت وحلب السفارديم من أوطانهم، "لا يزال الجيل الثالث والرابع من أبناء اليهود السوريين واللبنانيين في نيويورك يأكلون أطباقًا شامية مثل المحاشي واللحم بعجين والكبة والزعتر والرز بالبازلاء والفلافل والفول".
كنيس ماغن أبراهام في بيروت هو الأثر الوحيد الباقي من الجالية اليهودية في لبنان
ما يعبرّر أحفاد اليهود السوريين عن مشاعرهم باللغة العربية حتى وإن كانوا لا يتحدثون اللغة بطلاقة بعد أكثر من مئة سنة من الحياة في الولايات المتحدة.
يلفت عبادي الى أن المجتمعات اليهودية عاشت في الدول العربية أكثر من ألفي عام، وبالتالي "الثقافة الشرقية باتت جزءًا من الحمض النووي لليهود السفارديم، فحتى الصلوات الخاصة بيهود الشرق الاوسط وشمال أفريقيا لا تزال تختلف عن صلاة اليهود الاشكناز أو الغربيين في معابدهم حيث تتميز صلوات السفارديم بنغمها الشرقي الواضح".