كل المهاجرين الأوائل الذين افتقدوا العدل والحرية والمساواة في أوطانهم لجأوا إليها يبحثون عن عالم جديد. جاءوا تاركين أوطانهم التي ذاقوا فيها مرارة التمييز والفرز والإقصاء والفقر. جاءوا إلى عالم يصنعونه بأنفسهم لأنفسهم، ليقيموا يوتوبيا جديدة على أرض بكر طالما حلموا بها، ومن أجلها ركبوا بحارًا هائجة إلى المجهول. وظلت أميركا نموذج العالم الجديد، عالم الأمل والحرية والمساواة، عالمًا ينشده كل مظلوم وباحث عن فرصة نجاح، حيث لا مكان هناك للفاشلين.
تكونت أمة من المهاجرين الناجحين الحالمين المكافحين، الذين جاءوا إليها من كل حدب وصوب. جاءوا إلى أرض الموعد، وأسسوا بالجهد والعرق والدم والحرب عالمًا جديدًا بقيم جديدة. زرعوا وصنعوا وابتكروا وفكروا، وأثروا الكوكب كله وأثروا فيه فكرًا وفنًا وفلسفة وثقافة وابتداعًا، ومن ثم كوفئوا وتسيّدوا العالم عن جدارة واستحقاق.
إقرأ أيضاً: مرثية وداع دمشق
هذه هي أمة المهاجرين، أمة الآباء المؤسسين، قادة التحرر، دعاة المساواة، وقاهري العبودية: واشنطن، آدمز، فرانكلين، لينكولن وغيرهم. هذه هي أمة المهاجرين الذين انصهروا واتحدوا ليصنعوا معجزة بكل المقاييس. صنعوا ديمقراطية وصنعوا اقتصادًا وصنعوا جيوشًا وصنعوا مؤسسات، وأرسوا مبادئ حقوق الإنسان في كل الكوكب، وكانوا – نقول كانوا – المدافعين الأبرز دائمًا عن حقوق الشعوب واستقلالها.
ترى ماذا حدث؟ ومن حوّل أميركا التي وقفت في وجه الفاشية والنازية والعنصرية إلى النقيض؟ من حوّل الجالسين الجدد على كرسي واشنطن، روزفلت، لينكولن، هؤلاء العظام أنصار الضعفاء والمظلومين، إلى نازيين جدد تنضح الصهيونية العنصرية البغيضة من جلودهم؟
إقرأ أيضاً: الهلال الخصيب وداعاً
ودليلنا الدامغ هو هذه المأساة ثلاثية الأبعاد التي تجري فصولها في منطقتنا المنكوبة بهذا الكيان العنصري البغيض وحكامه المتطرفين، هؤلاء الذين أشعلوا المنطقة بحرب إبادة عرقية صريحة فاقت كل ما اقترفه النازيون والفاشيون. كل ذلك سكت عنه المجتمع "الحر" المؤمن بحقوق الإنسان. سكت المجتمع الدولي وغض البصر عن خطة حقيرة تبنتها ومولتها زعيمة العالم الحر، أميركا الديمقراطية، دولة المؤسسات العريقة: دكّ وتدمير وإزالة كل مظاهر الحياة ومقوماتها، وإعدام خمسين ألفًا من البشر، وإذلال وتجويع وتشريد مليوني إنسان، نصفهم من النساء والأطفال والعجائز، كل ذلك بغرض إجبارهم على ترك أرضهم قسرًا، في سابقة لم تحدث في التاريخ.
لم يحدث أن يتم تهديد وإجبار شعب بأسره على ترك أرضه صراحة وبكل فجور. إنها فضيحة أخلاقية تنافي كل الأعراف والقوانين والدساتير، وسوف تتكشف تفاصيلها المخجلة عاجلًا أم آجلًا.
إقرأ أيضاً: ولائم لديدان الأرض
إنَّ الاغترار بالقوة والتجبر بالنفوذ، وهذا الأسلوب الفجّ القميء الذي يتبناه الحاكم الأميركي وحليفه الصهيوني، لم تتبنّه أو تمارسه أي سلطة في أي عصر. فلم يحدث على مرّ التاريخ أن وقف حاكم أو زعيم ليأمر شعبًا آخر أن يغادر أرضه ويخليها، أرضه التي يملكها ويسكنها قبل أن توجد أميركا بآلاف السنين.
إنَّ الضمير الإنساني المذهول من هول الصدمة عليه أن يفيق، قبل أن يتحول الكوكب كله إلى شريعة الغاب، وتعود البشرية القهقرى، ويضيع نتاج فكر وعقل وتنظيم وحضارة مئات السنين، بسبب نزوة حاكم منتشٍ بنصر قد يبقيه على كرسي الحكم أقل من نصف عقد من السنين، لكنه قد يُبقي العالم يغلي لعقود طويلة.