في زمن النظام البائد، لم يكن جواز السفر مجرد ورقة رسمية تخوّلك السفر والتنقل بحرية، بل كان مفتاحاً للخلاص من واقع مُثقل بالهموم والأوجاع! كان الحصول عليه أشبه برحلة في متاهةٍ طويلة، مليئة بالانتظار الممل والإذلال الذي لا ينتهي. لم يكن يكفي أن تدفع الرسوم الرسمية، بل كنت تُجبر على دفع رشاوى، وكأنك تشتري حقك في الحلم بحياةٍ أفضل. فقد كان المواطن مكرهاً على دفع الرشاوى في سبيل الحصول عليه بأي وسيلة كانت، ناهيك عن الرسوم الباهظة التي كان يضطر لدفعها للخلاص من هوية وطن عاش أبناؤه القهر والذل، وانصاعوا لحكم طاغية لم يعرف يوماً الرحمة. حكم طاغية تعامل مع الناس بقسوة وخوف وحرمان وإذلال وفقر مدقع لسنوات تجاوزت أربعة وخمسين عاماً.
في بلدان العالم الأخرى، يحمل جواز السفر معاني الانفتاح على العالم، وسيلةً للسياحة أو لتحقيق الأحلام المهنية والاقتصادية قبل العودة إلى الوطن. لكن في سوريا، كان الجواز رمزاً للهروب، وليس السفر. لم يكن السوري يسعى للحصول عليه من أجل مغامرة مؤقتة، بل كان يبحث عن فرصة للفرار من وطنٍ صار فيه البقاء أشبه بحبس داخل جدران من الفقر، والقهر، والخوف.
كان الأساسي الهروب من خدمة عسكرية بلا أفق، تحوّلت إلى عبء ثقيل تُفرض فيه سنوات من العمر لخدمة نظام لا يحمي الوطن بل يحمي نفسه. الهروب من حياةٍ باتت ضنكاً يومياً، من طوابير الخبز، ومن انقطاع الكهرباء، ومن مستقبل قاتم بلا أمل. كان جواز السفر، بالنسبة إلى كثيرين، هو الجسر الوحيد لعبور هذا الواقع إلى عالمٍ ربما يحمل بصيصاً من الأمل.
لكنَّ الوصول إلى هذا الجسر لم يكن سهلاً. كان السوري يقضي ساعات، بل أياماً، في طوابير مكتظة أمام دوائر الهجرة والجوازات، حيث تُمارس البيروقراطية في أبشع صورها. كانت الرشاوى والإتاوات وسيلة لا غنى عنها لتسريع المعاملات أو حتى لضمان الحصول على الجواز في المقام الأول. لم يكن هذا الجواز مجرد وثيقة، بل أصبح معركة يخوضها الإنسان مع الفساد والذل والانتظار.
كان هذا الوضع أكثر قسوة على الشباب الذين حاولوا الهروب من الخدمة العسكرية. النظام كان يرى فيهم ذخيرةً تُستخدم لإدامة سلطته، فكانت القيود عليهم أشد، والمعاناة مضاعفة. لم يكن جواز السفر، بالنسبة لهم، مجرد وثيقة سفر، بل كان أملاً وحيداً للنجاة.
إقرأ أيضاً: "السفير".. أيقونة صحفية لا تُنسى
حين كان السوري أخيراً يضع يده على جواز سفره، لم يكن يحمل شعور الفرح فقط، بل أيضاً شعور الخوف من المجهول. كان الجواز نافذته إلى الغربة، والغربة لم تكن أبداً خياراً سهلاً. حمل الجواز معه أوجاع الرحيل عن الأهل والأصدقاء والذكريات. حمل معه ألم ترك أرض الوطن، وأحلاماً مبعثرة بخلاص قد يأتي في مكان آخر.
لكن على الرغم من ذلك، كان جواز السفر بصيص الأمل الوحيد، أملاً بحياةٍ كريمة تُحقق بعيداً عن قسوة النظام وظلم الواقع. كان فرصةً للبحث عن مستقبل جديد، وإن كان مليئاً بالصعوبات.
اليوم، يبقى جواز السفر السوري شاهداً على حقبة مؤلمة من تاريخ البلاد. ليس مجرد وثيقة، بل قصة أمةٍ بأكملها: أمة كانت تبحث عن الحرية، عن الأمان، عن فرصة لتعيش بكرامة. يعكس الجواز معاناة جيلٍ كامل عاش في ظل نظام جعل من أبسط الحقوق أحلاماً صعبة المنال.
إقرأ أيضاً: كيكل يثير الجدل في النمسا!
في ذاكرة السوريين، لا يزال جواز السفر يواجه أزمة حادة في استصداره في ظل فرحة السوريين في تحرير بلدهم والتخلص من حكم الطغاة على مر سنوات حكموا سوريا، وظهوره للعلن يحمل طعم الألم والأمل معاً. هو رمز لمعاناة وطن وأفراده الذين اضطروا للبحث عن الحياة خارج أرضهم. هو شاهد على قهرٍ فرضه النظام، وعلى إرادة حياة لا تُقهر، حملها السوريون معهم إلى كل بقاع الأرض، في حقائبهم وجوازات سفرهم وقلوبهم.