الشرق الأوسط يقترب من الوصول الى مرحلة حلمنا بها لزمن، مرحلة المصالحة والتسويات وصولاً الى إعادة الإعمار. الاهتمام الدولي واهتمام الخبراء هذه الفترة ينصب على دراسة كيفية اعادة الإعمار على الصعيد السياسي والاقتصادي وترميم البنى التحتية ولكن هناك جانب مهم لم يتم التركيز عليه إلى الان وهو مدى تأثير الحروب والأزمات على الشعوب وعلى الانسان وكيفية اعادة إعمار الإنسان بذاته.
نرى خطط اعادة الإعمار على الصعيد السياسي من خلال التسويات وتنظيم الأوليات وتقديم التنازلات واخذ التزامات للخروج بافضل سيناريو مرضي للأطراف ولو بالحد الادنى للوصول إلى هدف واحد وهو الاستقرار وإعادة التموضع. كما نرى في لبنان بعد فراغ سياسي دام لفترة ليست بالقصيرة وبعد أن اصبح هناك تيارات تمتلك قوات عسكرية منظمة بتوازي مع جيش الدولة، بعد مشوار طويل من الجدال السياسي الذي عطل التنمية وزاد الفوضى توقف الجميع وبمساعدة دولية اجتمع جميع الأطراف على طاولة واحدة مع اختلاف رؤاهم ومذاهبهم وطوائفهم وسياساتهم إلى اختيار رئيس واحد للبلاد. تونس بقيادة الرئيس قيس سعيد مثال مهم للعمل السياسي الاصلاحي بعد ان انهكت الفوضى مفاصل الدولة إبان الربيع العربي.
المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا في 2022 يذكر أن تكلفة إعادة إعمار سوريا تصل الى 250 مليار دولار. وفي اليمن قدّر البنك الدولي في العام ذاته تكلفة إعادة الإعمار بحوالي 40 مليار دولار.
تكلفة كبيرة ستساهم في اعادة بناء البنى التحتية واعادة اعمار مؤسسات الدولة ولكن هل هذا يعني أن الدولة ستعود الى المستوى التي كانت عليه في السابق قبل الأزمة؟ قطعاً لا..
برامج اعادة الإعمار تهتم باصلاح وترميم مفاصل الدولة ومؤسساتها وبناها التحتية ومرافقها لتصبح الدولة قادرة على تأسيس ما تم هدمه لينعكس ذلك على الشارع فيكون باستطاعة المواطن الحصول على عمل والحصول على الموارد الرئيسية التي تضمن له حياة كريمة، ثم تعمل الدولة بعد ذلك على مشاريع كبرى الهدف منها تحريك العجلة الاقتصادية من جديد وبذلك يصبح هناك دورة للمال، فرص عمل، روافد اقتصادية جديدة، وايضاً فرصة لبناء دليل استثماري يسهل على الدولة الحصول على قروض ومعونات تساهم في اعادة هيكلة الدولة اقتصادياً. ومن اهم الأمثلة على ذلك هو دور الدولة المصرية بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي، حيث أن الدولة المصرية كانت تعمل في اعادة ترميم البنى التحتية وإصلاح عمل المؤسسات بتوازي مع مكافحة الارهاب الذي خلفه الربيع العربي في سيناء وإعادة ضبط الحدود، ثم أعلنت الدولة المصرية عن مشروع قومي جديد وهو العاصمة الإدارية الجديدة الذي يهدف إلى تحقيق ما ذكرته سلفاً.
ولكن.. ماذا عن إعادة إعمار الإنسان؟ بعد الاعمار السياسي والاعمار الاقتصادي واعمار البناء وتهيئة البيئة المناسبة للعيش: هل الشعوب التي تعرضت لكل هذه الأزمات ستعود كما كانت عليه قبل الأزمة؟
الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر مرحلة مهمة استطاع المهتمين من خلالها عمل العديد من الدراسات على سايكولوجية المواطن والمجتمع وقت الهدوء، ثم وقت النداءات للخروج والثورة وتبني القضايا الكبرى والوجودية، ثم وقت الثورة والصراع، ووقت الشلل الكامل لمؤسسات لدولة وانعدام الأمان ونقص الموارد، ثم مرحلة الأمل بظهور طوق النجاة، ثم اعادة الإعمار، ثم حال الفرد والمجتمع بعد الوصول لبر الأمان ومقارنة الفرد والمجتمع قبل وبعد عبور كل هذه المحطات. قرر غوستاف لوبون علم النفس الاجتماعي بعد أن عاصر هذه الأزمات ودرس حال الانسان وكتب كتابه الشهير سيكولوجيا الجماهير، قدم لوبون من خلاله دراسة لكيفية التعامل مع المجتمعات وخلق الصراعات وتوظيف المجتمع في الصراع واخراج المجتمع من الصراعات وأثر هذه الصراعات على المجتمع، بأدوات مختلفة جزئياً عن سيكولوجيا الانسان، ولكن النتيجة الى حدٍ ما واحدة.
الشعور بانعدام الأمان، رؤية الوفيات، معاصرة الانهيارات، أصوات الصراخ والألم، الشعور بالجوع، القهر، الظلم، فقدان العلاج، فقدان الثقة، والكثير من المشاعر السلبية والمؤذية للإنسان التي تجعله زاهد في كل شيء ولا يدفعه للعيش الا غريزة البقاء، كل هذا سيبقى بداخل الإنسان وسيهدم الكثير من المعاني والسمات الايجابية بداخله مما يجعل الانسان الذي وصل لبر الأمان مختلف تماماً عن الانسان الذي كان على بر الامان قبل وقوع الأزمة.
وصول الانسان لبر الأمان بعد هذه المعاناة وتهيئة البيئة الملائمة له ليعود كما كان ليست كافية. لأنه سيبقى ركام داخل هذا الإنسان يجعله في حالة قلق وجودي كبير، سيكون من الصعب عليه جداً أن يعيد ثقته بما كان يثق به، سيكون من الصعب عليه الاعتقاد بما كان يعتقده قبل الأزمة،،، وغريزة البقاء ستجعله في حالة بحث مستمر عن بر الأمان حتى ولو كان يقف فيه.
من هنا تولد أزمة جديدة، ربما يدفع القلق الانسان للانحياز والدخول في مجموعة من الجماهير ويبحث عن القواسم المشتركة ويبحث عن قضية منفصلة عن القضايا التي اوقعته في فخ القلق والخوف، يرى الأمان في البقاء مع مجموعة قوية "ربما بقاءً معنوي وليس مادي"، يصبح من السهل جداً السيطرة عليه واقناعه بقضية هشة أو ايديولوجيا جديدة مضادة لمعتقداته السابقة.
وهنا تكون الدولة اعادت اعمار نفسها والعجلة بدأت بالدوران والبيئة أصبحت مستقرة ولكن مازال الإنسان قلق ومازال يبحث عن بر الأمان، هنا نحتاج الى اعادة إعمار الإنسان، اعادة إعمار الهوية الوطنية، اعادة إعمار الهوية الثقافية والتصدي لموجة ايديولوجيات متناثرة في شتى أرجاء الدولة، جميع هذه الايديولوجيات تعود جذورها الى قلق واضطراب والهدف منها الوصول لبر أمان خيالي ليس له وجود على أرض الواقع وأثرها على الدولة هو فوضى اجتماعية ثقافية ايديولوجية ستجعل الوعي الجمعي في حالة من عدم استقرار لعقود من الزمن.
الحل هنا هو مشروع قومي فكري اجتماعي يكون البوصلة التي يلتف حولها الجماهير بإيمان ويقين بعدالة المشروع وقوته. محرك فكري اجتماعي ثقافي ديني أمني، ينتج أفكار ورؤى ودراسات ويخلق نشئ جديد من النخب. من خلال هذا المحرك يتم تكوين مشروع وطني يحمل في طياته رسائل تعرف العالم بماهية وحقيقة الدولة وهوية الدولة، ومن هنا تستمد المؤسسات الاعلامية والثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية والأمنية المستهدفات والخطوط العريضة لتحقيق رؤى واهداف وتطلعات المشروع. وبذلك يتحقق مشروع يحمل رؤية مستدامة منفتحة على العالم وبذلك تترسخ الهوية أذهان المواطنين باختلاف طوائفهم وافكارهم، ويدرسوها بحب وولاء.