غزة ولبنان، كشفا لنا المشهد العربي (طولاً وعرضًا)، والمستور والمعلن، وأمراض البشر النفسية في سماء وهم اضطرابات المزاج والقلق والعجز وازدواجية الشخصية، والنرجسية المريضة، وفوبيا الأوهام الكاذبة، مثلما صنعا واقعًا كاذبًا مليئًا بالنشاز الاجتماعي، وساهما في تبلد العقول، وصنع البطولات المزيفة، والعنتريات الكاذبة، حتى وصلنا إلى قعر الذل والهوان.
كارثة قومية، لم نشهد لها مثيلًا في تاريخ الأوطان، ولا في أزمنة الصعود والهبوط، وطوفان البطولات الفردية التي تحكَّمت في العقل العربي، وجعلته يعيش في وهم الواقع الكاذب، والتنفيس المريض الذي يُسطِّر لنا الأساطير السياسية والدينية، والبوذيَّات الوطنية، وحكايات (ألف ليلة وليلة) الماجنة المعطرة بزمن الماضي المهووس بأفعال الجن والعفاريت، وأفكار الغيبيات.
ولأننا لم نعُد من أبناء (العروبة) -كما يقولون-، ولا من أبناء الضمير الحي الذي يُحركه طفلٌ غزاوي، يستنجد برجولتنا وشيمنا الوطنية، ولا شيخ لبناني على قارعة الطريق، فقدَ بيتَه. لم نعد من الماضي ولا من الحاضر، فقد فقدنا بوصلةَ العقل المستنير، وحكمة التفكير، ورجاحة الفعل. فلم تعد معاركنا إلا التقاتل فيما بيننا، والتنابذ بألقاب الطوائف، والأيديولوجيات الكاذبة التي تُعجّل من محونا وإبادتنا في معارك المصير، وفي مخازنها الملغومة بقذائف الكذب والخداع والتضليل. صارت فلسطين قصة طائفية لعقول مؤجرة ملغومة بالمصالح وأجندات الأيديولوجيات السياسية والدينية.
قبل أسبوعين، كتبت (متعمِّدًا، وبرسالةٍ واضحة، وما بين الأسطر) في مقالتي: (يورانيوم الأعلام)، بأن العدو الأجنبي بجنسياته المختلفة قد نجح في تلويث عقولنا وبيئتنا بيورانيوم الإعلام؛ فقتل روح الوطنية فينا، وعفّن ضميرنا، وبّلدّ عقولنا، وغيّب وعيُنا بالخرافات والشعوذة. وها هو قد نشر في مجتمعاتنا فساد المال والتعليم، وبرمج شبابنا بالتفاهات؛ مما جعلنا اليوم نرفع أسلحتنا (المريضة) حيث يقتل بعضُنا بعضًا بالرصاص والسيوف والألسنة، والنتيجة: غدت غزة عنوانًا للأيديولوجيات المنقسمة، وصارت لبنان عنوانًا للطائفية والدينية.
معركة لبنان (الوطن)، أصبحت في عقولنا المؤجرة، كأنها معركة مصير بين الطوائف، رغم أن المعركة واضحة في الدم والمصير، والعدو واحد (معروف النسب)؛ لكننا نشهد خرافةً جديدة، وشعوذةً (مدبلجة)، وهي ظهور جيوب خائبة تمزق وحدة الأهل، حيث فلسطين صارت قضية عليها اختلاف!، والعدو صار جميلًا وقبيحًا، حسب الأمزجة والأذواق والمواقف التي تصنع لنا قبحًا مجتمعيًّا ووطنيًّا -لا مثيل له-.
سأقول كلاماً أكثر وضوحاً، ممزوجًا بالحزن والأسى: إن ما يجري اليوم من انقسامات مجتمعية يغلب عليها الحس الطائفي المقيت، ما بين مؤيِّد لهذا الطرف أو ذاك من رؤية طائفية، بعيدًا عن الموقف الوطني والقومي؛ هو كارثة ما بعدها كارثة!، وهزيمة نفسية ساحقة؛ لأن ما يجري اليوم في الواقع، وعلى وسائل (التواصل الاجتماعي) يُثير العجب والاشمئزاز؛ إنه إثارة النعرات الطائفية، والشماتة بالأموات والدم والجروح والتهجير؛ وهو ما يؤكد، مع الأسف، انتصار العدو على قيَمِنا ومبادئِنا وعقائدِنا وأخلاقِنا، ويعلن فوزَ خططه، والتي تجعل منّا (مجتمعًا معوّقًا ذهنيًّا، وغبيًّا، وجاهلًا)!
لقد أرهقوا أفكارنا بالقضايا الصغيرة التافهة، وعمقوا فكرة تفضيل الطائفة على الوطن، وترويضنا على ممارسة تمارين لياقة الاقتتال المجتمعي، والعبث بقيَمِه؛ فقاتل بعضُنا بعضًا، ونحرنا رؤوس الأبرياء باسم الدين والطائفة ، وغزَوْنا الديار على الطريقة الجاهلية؛ فهجموا ونهبوا وقتلوا، وارتكبوا العظائم؛ فاشتعل الحقد وزغردت الضغينة في النفوس، ثم جاءت لحظات الشماتة الشيطانية؛ فلا ضمير يهتز على ما نراه في شوارع لبنان من مآسٍ، تمثلت في ترك البيوت والذكريات، ولا قلب رحيم يبكي دمًا من جرَّاء تهجير البشر من الأوطان بالملايين.
إقرأ أيضاً: أورام الدماغ المشفّرة
سياسة (توزيع الحلوى) أو الشماتة المتبادلة، والسجالات الحادة في وسائل (التواصل الاجتماعي) بين الطائفتين، وجمهرة من السوريين الذين اكتوَوْا بنيران القتال الداخلي والتهجير، تعكس ما دسَّه العدو في النفوس؛ حيث غلبة المشاعر ودوافعها الفطرية على حساب البُعد العقلي والأخلاقي؛ فضاعت قيم الأمة (الواحدة) ضد العدو، حيث طرفٌ يفرح بما يجري في لبنان، بغض النظر عن الجهة القاتلة، وكأنهم مؤيدون لإسرائيل في الظاهر!، وهو ما يخالف موقفهم الثابت.
وفي كل الأحوال، فإن التشفِّي مرفوضٌ في ذاته؛ باعتباره فعلًا غرائزيًّا وليس فعلًا عقليًّا أخلاقيًّا، فالعقل (وحده) الذي يقرر التمييز بين الظالم والمظلوم، والطريقة التي وقع بها عليه الأذى، والجهة التي صدر منها الأذى. وبمعنى آخر، أن يكون العقل أكثر نضوجًا في رؤية المشهد المتكامل، لأن حدود التفكير بكونه: إما أبيض أو أسود، أو عميل أو وطني؛ لن يُحقق إلا المزيد من الانقسام والتشرذُم والحقد المتوالي بالأفعال والسلوك المريض.
إقرأ أيضاً: عن الوطن سألوني
القول الأخير؛ لستُ مواطنًا طائفيًّا، ولا أنتمي إلا لطائفة واحدة هي (طائفة الوطن)، كذلك لستُ من هواة الحروب؛ فقد دخلنا حروبًا عبثيَّة لم نجنِ منها سوى الدمار والخراب، وضياع المجتمعات، والتهجير والقتل، وفراق الأحبة من الشباب. دخلنا الحروب بأنواعها تحت راياتٍ كاذبة ومُخادعة، باسم الأيديولوجيات والطوائف بهدف شرعنة سلطتها والحفاظ على مكاسبها في ظل طرق التعتيم والتمويهِ والخداع.
من العيب أن نتجادل اليوم في عصر القرية الرقمية على أكذوبة ألوان الطوائف، وقصاصات الفتاوي، وأكذوبة التاريخ المزيّف، وأوطاننا تمسح خارطتَها من خرائط العالم؛ فغدت اليوم (أشباه أوطانٍ) خربة تتراجع شيئًا فشيئًا إلى مراحلها البدائية الغابرة، وأهلها يحلمون بوطنٍ تتَّسع حدائقُه؛ لا مقابره!
وصدق حكيم قديم عندما قال: بعض الكلمات إن بقيت بداخلنا تقتلنا، وإن خرجت فنحن بها مقتولون! فلا الصمت راحة، ولا في البوح راحة!