بين حربي 2006 و2024 تغيّرت الصورة بشكل كبير في المواجهات القائمة بين إسرائيل وحزب الله، سواء لناحية الموازين العسكرية أو من ناحية الاستهدافات والاختراقات القائمة.
لطالما بقيت صورة حرب تموز 2006 ماثلة في الأذهان طوال الأعوام الثمانية عشر الماضية، حيث عمل حزب الله على استحضارها والتذكير بها بشكل دوري للتأكيد على علو كعبه، حتى وصل الأمر إلى حد القول علانية بأن ما واجهته إسرائيل في تلك الحرب سيكون نزهة مقارنة بما سيحدث في أي حرب مقبلة.
على هذا الأساس، بنى الحزب ومعه جمهوره والحلفاء توقعاتهم بشأن الحرب القادمة مع إسرائيل. الأخيرة، وكما يبدو من سير الأحداث الحالية، عملت بصمت بعيدًا عن الضجة الإعلامية في محاولة لتلافي أخطاء ما حدث في 2006 لضمان عدم تكرار الفشل.
ومن خلال التطورات الحالية، برز جليًا أن الإسرائيليين درسوا بعناية تحقيقات لجنة فينوغراد، التي تناولت بشكل أساسي فشل القراءة السياسية لحكومة إيهود أولمرت، ثم القرارات العشوائية التي اتُّخذت، خصوصًا في الأيام الأخيرة للحرب التي دامت لثلاثة وثلاثين يومًا.
الفشل السياسي لتل أبيب جاء أساسًا بسبب وصول حكومة هجينة يومها، فحزب كاديما الذي انشق عن الليكود وضم إلى صفوفه قيادات من حزب العمل كان قد تفوق على منافسيه في انتخابات الكنيست، فتمكن من إيصال مرشحه لرئاسة الوزراء وتم تشكيل حكومة تضم المنشقين عن أحزابهم. وفي أول اختبار كبير انزلقت إسرائيل إلى الحرب دون تخطيط، مكتفية برفع شعارات كبيرة كاستعادة الجنديين المخطوفين تارة، وضرب بنية حزب الله تارة أخرى. ووسط هذا الضياع جاء القرار الأسوأ بشن عملية برية كبيرة بعد الأسبوع الأول من شهر آب (أغسطس)، أي قبل حوالى 96 ساعة من موعد وقف إطلاق النار، وجاء هذا القرار ليضاف إلى القرارات والتقديرات والقراءات الفاشلة للحكومة الإسرائيلية.
وبمقابل فشل القيادة السياسية، كان هناك فشل أمني - عسكري كبير تجلت أبرز عناصره في عدم تمكن الجيش الإسرائيلي من الحصول على معلومات عن أنواع السلاح التي أضافها حزب الله إلى ترسانته العسكرية منذ الانسحاب عام 2000، حيث ظهرت صواريخ الكورنيت المضادة للدروع بشكل مفاجئ، وتم استهداف البارجة الحربية "ساعر" في البحر، ولم تتمكن أجهزة الاستخبارات من تحقيق خروقات في شبكة اتصالات حزب الله، فأصيب الجيش الإسرائيلي بعمى ميداني.
إخفاقات 2006 عمل الإسرائيلي على معالجتها وسد ثغراتها في المواجهات التي انطلقت عام 2023 واستمرت في 2024 حتى أصبحت ككرة الثلج منذ منتصف أيلول (سبتمبر) الماضي. فعلى المستوى السياسي، لم تبادر حكومة بنيامين نتنياهو إلى شن حرب شاملة بعد إطلاق حزب الله معركة "إسناد غزة" يوم الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وبقيت المواجهات ضمن سقف التصعيد المحدود. فضّلت تل أبيب في هذه الفترة التركيز على قطاع غزة حتى انتهت تقريبًا العمليات العسكرية الكبيرة في القطاع المدمر، وبالتوازي، دأبت على القول بأنها تريد إنهاء الأزمة مع حزب الله بالطرق الدبلوماسية أولاً، وحاول المبعوث الأميركي آموس هوكستاين العمل على وقف لإطلاق النار ينهي معه مبدأ "وحدة الساحات" والبحث في تطبيق القرار 1701 وجعل منطقة جنوب الليطاني منزوعة السلاح.
إقرأ أيضاً: أخطر من "البايجر"... خطط إسرائيل لحزب الله
وبالتزامن مع المطالبات بحلول دبلوماسية لمنع وقوع الحرب، كان الإسرائيليون قد بدأوا منذ سنوات بعيدة بتنفيذ التوصيات التي أعقبت تقرير فينوغراد ومعالجة الخلل الذي ظهر في 2006. فنجحوا في تحقيق خرق في شبكة اتصالات حزب الله (البايجر وأجهزة اللاسلكي). هذا الخرق لم يكن فقط عبارة عن قنابل موقوتة تزنر أعضاء حزب الله، بل آلة تجسس كبيرة منحت تل أبيب كمًّا هائلًا من المعلومات عن القيادة والسيطرة في الحزب وأماكن تواجد مخازن الأسلحة، وصولاً حتى إلى مخازن الأغطية واللوازم اللوجستية المُعدة للاستخدام مع اندلاع الحرب. بالإضافة إلى التفوق الذي حققته، نجحت إسرائيل في توظيف العامل التكنولوجي لصالحها وتمكنت من إحداث خرق بشري على مستوى عال في مكان ما، وجميع هذه العوامل التي جرى توظيفها منحت نتنياهو وحكومته اليد الطولى لتنفيذ ضربة كبيرة مع إعلان وفاة الحل الدبلوماسي.
عملية البايجر وتفجير أجهزة اللاسلكي وضعت الجميع أمام مشهد لو رأوه في الأفلام والمسلسلات لقالوا إنه مبالغ فيه. ورغم ما كُشف عنه في الأيام الماضية بخصوص تخطيط الموساد الدقيق والسري لهذه العملية منذ 2015، إلا أن هناك حوادث واستهدافات حصلت قبل يوم تفجير الأجهزة في السابع عشر من أيلول (سبتمبر) قرعت جرس الإنذار وأشارت بشكل لا لبس فيه إلى وجود خرق كبير ربما لم يعطه حزب الله بعدًا كبيرًا، ولم يدرسه بشكل مفصل رغم أن ضراوة المعارك لم تكن كما هي عليه الآن. فهناك العديد من مجموعات الحزب المكلفة بإطلاق الصواريخ، جرى استهداف بعضها قبل البدء بعملية إطلاق الصليات الصاروخية، وقسم آخر أثناء محاولة التنفيذ، مرورًا باغتيال صالح العاروري، نائب رئيس حركة حماس، وقادة وحدات عزيز والنصر، واغتيال فؤاد شكر، ومبادرة إسرائيل إلى شن عدة غارات عنيفة قبيل دقائق من إطلاق عملية الثأر له.
إقرأ أيضاً: أخطاء "محور المقاومة" القاتلة في أكتوبر
خرق شبكة الاتصالات يعد "مقتلة" لأي طرف خلال المعارك والحروب، ومن دونها ينقطع التواصل بين الميدان والقيادة، ويكون الضياع سيد الموقف. ولعل ما ذكره أحد المواطنين السودانيين الذي رحل إلى أفغانستان مطلع الألفية لينضم إلى صفوف تنظيم القاعدة أبلغ مثال. القاعدي روى أنه وأثناء تساقط معاقل طالبان والتنظيم، طُلب إليهم رمي أجهزة الاتصال خوفًا من اختراق موجاتها من قبل الأميركيين، وكانت مجموعته التي تضم حوالى سبعين عنصرًا يحاولون الانتقال إلى إحدى المدن للانضمام إلى مجموعة حليفة، وبعد مسير طويل، وصلت المجموعة إلى مفترق طرق، حيث بات لزامًا عليهم أن يسلكوا اتجاهاً محدداً. ولما غابت أجهزة الاتصال، عُهد إلى أمير المجموعة باختيار الطريق. استحضر القائد مبدأ "تيامنوا"، وانعطف يمينًا، فانتهى الأمر بأفراد المجموعة في كمين للأميركيين وحلفائهم.