قد كان قلمى ممسكًا عن الكتابة فى شأن مهلكة غزة ومن حولها، لا لبلادة طبع، ولا لتغافل بال، ولا لشماتة بإخوة، لكن لأني رأيت الوقت وقت صانع تاريخ أو كاتب تاريخ وأنا لست بأحدهما، ثم إن الأمور صائرة إلى مقادير محتومة يدبرها الملك، وأنا مهما أكتب في هذا الشأن فلن أقول إلا مُعادًا مكرورًا لا يغني شيئًا.
لكن تلك النار التي تشتعل في القلوب والأجساد والديار تذكي جذوة الفكر في النفس، وتسوق إليها الأفكار سَوْقًا، بل إنها لتبعث المرء على شيء من التفلسف، وشيء من التخيل، وشيء من التمنيات غير البعيدة. فإني قد نظرت في أمر الطفل الصغير فوجدته لا يقوم بغذائه بنفسه إلا بكبير يقوم على غذائه، ولا ينتصر بنفسه بل بكبير ينصره، ولا يقدر على جلب نفع أو دفع ضر إلا أن يعينه كبيره على ذاك، وليس يستطيع مالًا إلا أن يُعطاه من وليِّه، فلما نظرت إلى حال "كيان السوء" النازل بالبقعة المباركة شرق سيناء فقد رأيت حاله كحال الطفل أو هو أضعف، فإنه من أول حجر فيه إلى آخر قنبلة على غزة والضاحية وطهران لا يزال يأخذها من كبيره وقَيِّمه إما البريطاني سابقًا، وإما هذا الذي خلف بحر الظلمات الذي لولاه ما طغى ولا بغى ولا أفسد (غلام السوء).
ثم إني تفلسفت فرأيت أنه لولا فضول المال وفضول القوة وفضول الفراغ لدى هذا القائم وراء بحر الظلمات لما فرغ لهذا الربيب الإسرائيلي البعيد عنه دينًا وجنسًا ومنزلًا يغذوه ويعينه ويسلحه ويموله ليعيث إفسادًا في الأرض!
إقرأ أيضاً: عرش واحد ومسيحان!
ثم رأيتني أذهب في تغيير هذا الواقع بتمني الممكنات من الأمنيات، فأسأل نفسي: ماذا لو صُنعت لأميركا أكرانيا لاتينية في حديقتها الخلفية؟! ألم تكن تكساس وكاليفورنيا وولايات أخريات مكسيكية أُخِذت غلبة وبالبخس من المال؟! فماذا لو طالبت المكسيك بهذه الملايين من الكيلومترات المربعة التى غُبِنتها؟! وماذا لو أبَت الولايات المتحدة أن تنزل عن ولايات الجنوب الغربي للمكسيك فاستعانت المكسيك بروسيا والصين ودخلت في حلفهما؟! وماذا لو قبلت الصين وروسيا رفد المكسيك بالسلاح والخبراء لحرب الولايات المتحدة لتشغلاها بحدودها هي؛ لا بتايوان ولا بالأُكران؟! وماذا لو اغتنمت إيران الفرصة فأمدتها بالشاهد والفاتح والقادر لتشغل أميركا عن نصرة (الكيان) وعن تدبير المكائد لإيران؟! وماذا لو جاءتهم كتائب موتورة من فلسطين والعراق واليمن وغيرها يريدون إدراك ثارات أبناء لهم وآباء؟! وماذا لو عزم الروس الأمر وسَعَوْا في استرداد برية ألاسكا الروسية واقتطاع نحو مليوني كيلومتر مربع من الأرض والنفط والغاز من الدولة الأميركية؟! وماذا لو اجتمعت عزائم المضطهدين فأقاموا البريكس مكان الدولار ليفلسوا الدولة الظالم حكامها؟!
إقرأ أيضاً: بنك الدم
إنَّ تلك الأمنيات غير البعيدة أو تلك الرجاءات غير المُحالة إن هي وقعت ستضرب على (الكيان) ذلة شديدة، وستوهن بأسه، وستثلم ركنه الأشد الذى يأوي إليه، وستحفظ الأموال والأنفس التي يتلفها هؤلاء المفسدون في الأرض بمعونة وتواطؤ راعيهم وقيِّمهم الأميركي! كما ستُشغَل أميركا بأمرها عن التسلط على الخلائق، وعن فرض دينها وفلسفتها على الناس في مدارسهم وأموالهم وأخلاقهم وشريعتهم ومن يحكمهم.
"ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبًا".