تُعتبر الأمثال الشعبية موروثًا شفهيًا متوارثًا عبر الأجيال، سهل الانتشار وسريع التداول، إذ جاءت تعبيرًا عن تجربة محددة، وأصبح استخدامها شائعًا بين الناس بمناسبة وقوع تجارب أو مواقف مماثلة للتجربة الأصلية. كما أنها نتاج لتداخلات التاريخ والثقافة والجغرافيا والأدب والاقتصاد والدين والعادات والتقاليد والسياسة.
يُعدّ المثل الشعبي العراقي، كباقي الأمثال الشعبية المتداولة في العالم، ركنًا مهمًا من أركان التراث الشعبي العراقي، حيث يعكس حكمة الأجداد وثقافتهم، لبلاغة تعبيره عن مختلف تجارب المجتمع التي مر بها عبر العصور. يعبر المثل عن ثقافة المجتمع، وطرق عيشه، ومختلف المعاملات والأخلاق التي تعارف عليها الناس فيه. وبالرغم من أنَّ بعضًا من هذه التجارب قد اختفت قصتها أو تفاصيلها، إلا أن تأثير بعضها ما زال متداولًا بقوة حتى اليوم.
هناك أمثال تنطبق على واقعنا المأساوي في المجتمع العربي، والعراقي خاصة. وهنا أذكر المثل الذي ينطبق على كثير مما يحدث في واقعنا الحالي الذي نعيشه في العراق، بالرغم من سخريته وفكاهته: "قالوا للبعير لماذا رقبتك عوجاء، فأجاب: ليس بىّ شيء عدل".
إقرأ أيضاً: الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين مستمرة ما دام القاتل حراً طليقاً
المثل المذكور واضح ولا يحتاج إلى شرح وتوضيح، وهو لا يفارق ذهني عندما أقوم بتحليل الأوضاع البائسة في العراق. فكل شيء في العراق "عوجاء" ولا يوجد شيء "عدل" حقًا. ففي ظل انتشار الفساد والطائفية والانقسامات العرقية والدينية والقبلية في جميع المجالات، بالإضافة إلى التلوث البيئي*، ونقص الخدمات العامة، وأزمة المياه والجفاف، والبطالة، وعدم الاستقرار، والتدخل أو بالأحرى الاحتلال الأجنبي، والإدمان على المخدرات، والفقر، يحاول برلمانيون عراقيون الدفع بتعديلات جائرة وغير مدنية وإنسانية على قانون الأحوال الشخصية لسنة 1959. تهدف هذه التعديلات إلى شرعنة زواج القاصرات ومنح رجال الدين سلطة أكبر، مما يسلب المرأة العراقية الكثير من المكتسبات التي حصلت عليها بنضالها وتضحياتها على مدى عقود.
يرى مراقبون أنَّ قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 المعدَّل، يعد من القوانين الأكثر تقدمًا ليس فقط في العراق، وإنما في الشرق الأوسط. حيث جمع بين أحكام تقدمية من المذاهب كافة دون أي تمييز. لطالما رفضته الحكومات والسلطات الدينية والأحزاب الطائفية الحاكمة في العراق، وجرت محاولات عدة لتغييره منذ سقوط النظام السابق وحتى الآن. ويعتقد هؤلاء المراقبون أن منح المؤسسات الدينية السلطة في مسائل الزواج والإرث من شأنه أن يقوّض مبدأ المساواة بحسب القانون العراقي، إذ يعامل المرأة على أنها أدنى من الرجل. كما أن هذا التعديل يضفي شرعية على زواج الفتيات اللاتي لا تتجاوز أعمارهن تسع سنوات، عكس ما جاء في المادة السابعة من قانون الأحوال الشخصية لسنة 1959.
إقرأ أيضاً: ممتاز الحيدري.. منارة للمعرفة والثقافة والإبداع
أخيرًا، لا يمكن تحميل أسباب فشلنا جميعها للعوامل الخارجية، فنحن نتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية. بالتالي، نحن شركاء، شئنا أم أبينا، في انتشار التخلف والتراجع وتحويل العراق إلى دولة فاشلة ومستبدة من خلال صمتنا عن قول الحق. فعن أي قوانين "عوجاء" نتحدث في بلد ليس فيه شيء "عدل"؟
أختتم مقالتي بمقولة لأحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، عبد الرحمن الكواكبي، في هذا الجانب، قد تختصر كل المعاني: "الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مُطيع، والمُشتكي المُتظلم مُفسِد، والنبيه المُدقق مُلحد، والخامل المسكين صالح. ويُصبح كذلك النُّصْح فضولًا، والغيرة عداوة، الشهامة عتوًا، والحميّة حماقة، والرحمة مرضًا، كما يعتبر أن النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لُطْف، والنذالة دماثة!".
* ملاحظة: في مسح أجرته شركة "أي كيو أر" السويسرية لتصنيع أجهزة تنقية الهواء في آذار (مارس) 2023، احتل العراق المرتبة الثانية من بين أكثر دول العالم تلوثًا. وأوضح المسح أن العراق، الذي يقطنه 43.5 مليون شخص، تدهورت جودة الهواء فيه إلى 80.1 ميكروغرامًا من جزئيات بي إم 2.5 لكل متر مكعب بعدما كانت 49.7 ميكروغرامًا لكل متر مكعب عام 2021. وقد أثر استخراج النفط ووجود المصانع القريبة من المدن سلبًا على الوضع البيئي في العراق. كما أنَّ بغداد والبصرة ونينوى وأربيل كانت الأكثر تأثرًا، حيث توجد فيها أعلى نسب تلوث وأكبر عدد من مرضى السرطان نتيجة ارتفاع نسب تلوث الهواء